الرئيسية / تأريخ وتراث / العالِم الأكثر دموية في الاتحاد السوفيتي يستعيد شعبيته في روسيا

العالِم الأكثر دموية في الاتحاد السوفيتي يستعيد شعبيته في روسيا

كتبه لموقع (the Atlantic): سام كين
منشور بتاريخ: 19 كانون الأول/ ديسمبر، 2017
ترجمة: آمنة الصوفي
تدقيق: عمر أكرم المهدي
تصميم: حسام زيدان

على الرغم من استحالة قول ذلك بيقين، فأنهُ لمن المحتمل أن يكون تروفيم ليسينكو قد تسبب في قتل عدد من البشر أكثر من أي عالم في التاريخ. حيث أدت المآثر العلمية المريبة الاخرى إلى فقدان آلاف الآلاف من الأرواح في فترةٍ وجيزة من الزمن: الديناميت، الغاز السام والقنابل الذرية. ولكن ليسينكو، عالم الأحياء السوفيتي، جرف الملايين من الناس إلى المجاعة من خلال البحوث الزراعية الزائفة، دون تردد. فقط الحصيلة الجمعية للبنادق والبارود عبرعدة قرون، يمكن أن تتطابق مع هكذا المجزرة.

بعد أن نشأ ليسينكو في فقر مدقع في مطلع القرن العشرين، كان يؤمن بكل إخلاص بوعود الثورة الشيوعية. حتى عندما تصادمت أفكار العلوم مع أفكار الشيوعية، اختار دائمًا الأخير – واثقًا من أن البيولوجيا تتفق مع الأيديولوجيا الشيوعية في نهاية المطاف. وبطريقة ملتوية، ساعد هذا الإيمان بالأيديولوجيا في إنقاذ سمعة ليسينكو اليوم. بسبب عداءه تجاه الغرب، وعدم ثقته بالعلم الغربي، فهو يتمتع حاليًا بنهضة في وطنه، حيث الميول المعادية لأميركا قوية.

قفز ليسينكو إلى أعلى الهرم العلمي السوفيتي بسرعة غير عادية. كان قد وُلد في عائلة من المزارعين الفلاحين في عام 1898، كان أُمّيًا حتى سن 13 عامًا، وفقًا لمقال حديث نشرته مجلة (Current Biology) عن نهضته. ومع ذلك استغل الثورة الروسية وحصل على القبول في العديد من المعاهد الزراعية حيث بدأ بتجربة طرق جديدة لزراعة البازلاء خلال الشتاء السوفيتي الطويل القاسي، من بين مشاريع أخرى. على الرغم من أنه كان يدير تجارب ركيكة التخطيط وربما زوّر بعض نتائجه، فقد حصلت بحوثه على الإطراء في جريدة تديرها الدولة عام 1927. وبسبب ماضيه العصيب — أطلق عليه المواطنون «العالِم ذو الأقدام العارية» وأكسبته الشهرة داخل الحزب الشيوعي، الذي يمجّد الفلاحين.

عيّنت الدولة في نهاية المطاف ليسينكو مسؤولًا عن الزراعة السوفيتية في ثلاثينيات القرن العشرين. كانت المشكلة الرئيسية هي أفكاره العلمية المعتوهة. على وجه الخصوص، علم الوراثة. على الرغم من نشأته الحديثة، شهد علم الوراثة تقدّمًا سريعًا في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين؛ ومُنحت جائزة نوبل الأولى للعمل في علم الوراثة عام 1933. وخاصة في تلك الحقبة، حدد علم الوراثة صفات ثابتة: النباتات والحيوانات لها خصائص مستقرة، ومشفرة كجينات، والتي تنتقل إلى الأجيال التالية. على الرغم من توسّمه اسم العالِم، إلّا أن ليسينكو اعتبر هذه الأفكار رجعية وطالحة، لأنه رأى أنها تعزز الوضع الراهن وتحرم أي قابلية على التغيير. (ونفى في الواقع وجود الجينات.)

وبدلًا من ذلك، وكما وصفه الصحفي جاسبر بيكر في كتابه «الأشباح الجياع» – (Hungry Ghosts)، عزّز ليسينكو الفكرة الماركسية القائلة بأن البيئة وحدها تشكِّل النباتات والحيوانات. وصرّح ليسينكو بأن وضع النباتات في المحيط المناسب مع التعريض إلى المحفزات المناسبة، يمكن أن يُنتج كميات وفيرة من المحاصيل.

وتحقيقًا لهذه الغاية، بدأ ليسينكو في ’’تربية‘‘ المحاصيل السوفيتية لتنبت في أوقات مختلفة من السنة من خلال غرسها في المياه المتجمدة، من بين ممارسات أخرى. ثم ادّعى بأن الأجيال القادمة من المحاصيل سوف تكتسب هذه العِظة البيئية، وسوف تتوارث هذه الميزات المفيدة حتى من دون معالجتها ذاتيًا. وفقًا لعلم الوراثة التقليدية، فهذا أمر مستحيل: إنها أقرب إلى قطع ذيل القطة ومن ثم التوقع لها بأن تلد قططًا لا تمتلك ذيلًا. ليسينكو، وبدون رادع، سرعان ما تفاخر بإمكانية زراعة أشجار البرتقال في سيبيريا، كما جاء في كتاب (الأشباح الجياع). كما وعد بزيادة المحاصيل فى جميع أنحاء البلاد وتحويل الأراضي الجرداء إلى مزارع شاسعة.

وكانت هذه الادعاءات بالضبط ما يود القادة السوفيتيون سماعه. في أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات من القرن العشرين، قام جوزيف ستالين — بدعم من ليسينكو — بوضع برنامج مفجع لتحديث الزراعة السوفيتية، مما أجبر ملايين الأشخاص على الانضمام إلى المزارع الاشتراكية التابعة للدولة. مما أدى إلى فشل المحاصيل والمجاعة على نطاق واسع. مع ذلك، رفض ستالين تغيير المسار، وأمر ليسينكو بإصلاح الكارثة مستخدمًا أفكارًا تقوم على سياسته الراديكالية المستحدثة. أجبر ليسينكو المزارعين على زراعة البذور على مسافات متقاربة جدًا من بعضها، بناءً على ادعاءه في كتاب «قانون حياة الأنواع» – “law of the life of species”، فإن النباتات التي تنتمي إلى نفس الصنف لا تتنافس مطلقًا مع بعضها البعض. كما منع استخدام الأسمدة والمبيدات.

ويُذكر في كتاب (الأشباح الجياع) بأن القمح والجاودار والبطاطا والبنجر، ومعظم المحاصيل التي نمت وفقًا لأساليب ليسينكو قد آلت إلى التعفن والموت. سبّب ستالين مجاعات أسفرت عن مصرع ما لا يقل عن 7 ملايين شخص، بيدَ أن ممارسات ليسينكو استمرت لفترة طويلة وفاقمت شحة الغذاء. (وبلغت الوفيات من المجاعات ذروتها في الفترة من عام 1932 إلى عام 1933، ولكن بعد أربع سنوات، بعد زيادة 163 مرة في الأراضي الزراعية المزروعة باستخدام أساليب ليسينكو، كان إنتاج الأغذية أقل بكثير من ذي قبل). كما عانى حلفاء الاتحاد السوفيتي بسبب ليسينكو أيضًا. واعتمدت الصين الشيوعية أساليبه في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي وتكبّدت مجاعات أكبر. ولجأ الفلاحون إلى تناول لحاء الشجرة وفضلات الطيور. و توفي ما لا يقل عن 30 مليون شخص بسبب المجاعة.

لم يُضعف فشل ليسينكو من سلطته داخل الاتحاد السوفيتي، لأنه كان يحظى بدعم ستالين. بل عُلّقت صورته في المعاهد العلمية في جميع أنحاء البلاد، وفي كل مرة كان يلقي خطابًا، وتغني الجوقة الموسيقية أغنية مكتوبة على شرفه.

واجه الاتحاد السوفيتي الاشتراكي نقدًا لاذعًا لاستراتيجياته. فعلى سبيل المثال، أعرب عالم أحياء بريطاني عن أسفه لأن ليسينكو كان ’’جاهلًا تمامًا بالمبادئ الأساسية لعلم الوراثة وعلم وظائف الأعضاء النباتية… فالتحدث مع ليسينكو كان مثل محاولة شرح التفاضل لرجل لا يعرف جدول الضرب. سببت الانتقادات التي تعرض لها ليسينكو من قبل الغرب، الإزعاج ولاسيّما أنه كان معاديًا لعلماء الطبقة البرجوازية الغربية، وكان يعتبرهم مجرد وسائل للقمع الامبريالي. كما أمقته على وجه الخصوص البرنامج الأميركي لدراسة ذباب الفاكهة، وأطلق على علماء الوراثة ’’عشاق الذباب وكارهي الأنسان.‘‘

لم يتمكن ليسينكو من القضاء على جميع المعارضين داخل الاتحاد السوفيتي. ووجد العلماء الذين رفضوا التخلي عن علم الوراثة أنفسهم تحت رحمة الشرطة السرية. وحصل المحظوظون على الطرد من مناصبهم وتُرِكوا للعازة. وتم تطويق المئات منهم إن لم يكن الآلاف وإلقاؤهم في السجون أو في مستشفيات الأمراض النفسية. وحُكِم على عدة أشخاص بالإعدام على أنهم أعداء للدولة أو تم تجويعهم في زنزاناتهم (أبرزهم عالم النبات نيكولاي فافيلوف). قبل ثلاثينيات القرن العشرين، كان الاتحاد السوفيتي رائدًا في علم الوراثة في العالم. إلّا أن ليسينكو خيّب الآمال، وتسبب في تراجع علم الأحياء الروسي نصف قرن إلى الوراء.

بدأت قبضة ليسينكو على السلطة تضعف بعد وفاة ستالين في عام 1953. وبحلول عام 1964، كان قد تم عزله كديكتاتور لعلم الأحياء السوفيتي، وتُوفي في عام 1976 دون استعادة أي نفوذ. استمرت بعض المعاهد بتعليق صورته خلال سنوات غورباتشوف، ولكن بحلول التسعينيات من القرن العشرين، قامت البلاد أخيرًا بوضع رعب وعار ليسينكو خلفها.
حتى وقتٍ قريب. وكما ورد في مقال حديث عن مجلة (Current Biology)، سطع نجم ليسينكو من جديد في روسيا في السنوات القليلة الماضية. وقد ظهرت العديد من الكتب والوثائق التي تشيد بتراثه، مدعومة بما تسميه المقالة ’’تحالفًا ملتويًا ما بين اليمينيين الروس والستالينيين وبعض العلماء المؤهّلين، وحتى الكنيسة الأرثوذكسية.‘‘

هنالك عدة أسباب لهذا التجديد. منها، حقل جديد رائج من علم الوراثة، وهو علم التخلق المتوالي (epigenetics: علم ما فوق الجينات هو الذي يدرس بشكلٍ رئيسي العوامل الخارجية والبيئية التي تنشط أو تثبط عمل الجينات، وتؤثرعلى كيفية قراءة الخلية للجينات. – المترجم) مما جعل أفكار ليسينكو مرموقة. معظم الكائنات الحية لديها الآلاف من الجينات، ولكن ليست كل تلك الجينات نشطة في آن واحد. بعضها يعمل أو يتوقف عن العمل داخل الخلايا، أو يطرأ عليه تصغير أو تكبير في الحجم. دراسة هذه التغيرات في ’’التعبير الجيني‘‘ (هو العملية التي يتم من خلالها تحويل المعلومات من الجينات إلى منتج. هذه المنتجات غالبًا ما تكون بروتينات. – المترجم) تُسمى علم التخلق المتوالي (epigenetics). ووُجد بأن التأثيرات البيئية غالبًا ما تتسبب في تفعيل عمل الجينات أو تعطيلها. في بعض الحالات، يمكن لهذه التغييرات التي سبّبتها البيئة أن تُورث من الوالدين إلى الطفل، تمامًا كما ادّعى ليسينكو.

ولكن حتى عند إلقاء نظرة خاطفة على عمل ليسينكو يتبين أنه لم يتنبّأ أو يستبق أمرًا مهمًا في علم الوراثة. في حين ادعى ليسينكو بأن الجينات لم تكن موجودة، واعتبر ليسينكو بأن علم التخلق المتعاقب (epigenetics) يعتبر الجينات على أنها مكونات يمكن تشغليها أو تعطيلها. وبينما أن التغييرات الجينية يمكن لها أحيانًا (فقط أحيانًا) أن تمر من الأصل إلى المنتج، ثم تختفي هذه التغييرات دائمًا بعد بضعة أجيال؛ ليست دائمية مطلقًا، وهذا يتناقض تمامًا مع كل أقوال ليسينكو.

لا يمكن لعلم التخلق المتوالي (epigenetics) بمفرده أن يفسر نهوض ليسينكو. هنالك شيء أكبر يجري هنا: عدم الثقة في العلم نفسه. كما تشير مجلة (Current Biology) في مقال لها، فإن المدافعين الجدد عن ليسينكو ’’يتّهمون علم الوراثة بأنه مسيّس لخدمة مصالح الإمبريالية الأميركية ضد مصالح روسيا.‘‘ في نهاية المطاف، العلم هو مكوّن محوري في الثقافة الغربية. كان القروي ليسينكو الملقّب بحافي القدمين، يرى نفسه كبطل روسي في مواجهة العلم الغربي. والواقع أن الحنين إلى عهد الاتحاد السوفيتي وقواته المناهضة للغرب أمر شائع في روسيا اليوم. وفي استطلاع للرأي العام أُجري في عام 2017 وُجد أن 47% من الروس استحسنوا شخصية جوزيف ستالين و ’’مهاراته الإدارية.‘‘ الكثير استغلوا شعبية ستالين لركوب الموجة، بما في ذلك ليسينكو.

من ناحية، فإن إعادة التأهيل هذه مروعة. فعلم الوراثة بالتأكيد لن يُحظر في روسيا مرة أخرى، وستبقى الجهود المبذولة لإعادة التأهيل مجرد حركة هامشية عمومًا. ولكنها أفكار يمكن أن تكون لها عواقب وخيمة. لأنها تشوّه التاريخ الروسي وتستمد بريقها من الضرر الرهيب الذي سببه ليسينكو مستغلًّا سلطته لإسكات وقتل زملاء المهنة والمجاعات التي قتلت الأبرياء بسبب معتقداته. حقيقة أنه حتى بعض ’’العلماء المؤهلين‘‘ قد تسببوا في تحجيم الموقف العدائي الذي أبداه ليسينكو تجاه الغرب في بعض الحالات: حتى أن البعض انحرف عن مساره لتعزيز هذه الأيديولوجيا.

ومن الناحية الأخرى، هنالك شيء مألوف بشكل مثير للقلق حول قضية ليسينكو، لأن هذه الأيديولوجيا تحرف العلم في العالم الغربي أيضًا. ما يقرب من 40% من الأميركيين يعتقدون بأن الله خلق البشر في شكلهم الحالي، من دون تطور. ما يقرب من 60% من الجمهوريين يعزون التغيرات في درجة الحرارة العالمية إلى أسباب غير بشرية. وعلى الرغم من عدم وجود مقارنة أخلاقية حقيقية بينهما، فإنه من الصعب عدم سماع أصداء ليسينكو في تصريح سارة بالين الساخر من بحوث ذبابة الفاكهة في عام 2008. ولئلا يصبح الليبراليون متعجرفين جدًا، فإن العديد من القضايا اليسارية – مثل هستيريا الكائنات المعدّلة وراثيًا، ونظرية ’’اللوح الفارغ‘‘ التي تخص الطبيعة البشرية (الأفراد يُولدون دون محتوى أو معرفة عقلية سابقة ولذلك فإن كل المعرفة تأتي عن طريق التجربة أو الإدراك. – المترجم) تبدو شنيعة تمامًا كنهضة ليسينكو.

وعلى غرار الاتحاد السوفيتي نفسه، تم نقل ’’علم‘‘ تروفيم ليسينكو إلى مزبلة التاريخ. ومع ذلك، فإن مخاطر ليسينكو – من تحويل البيولوجيا إلى أيديولوجيا – لا تزال كامنة.
المصدر: هنا

عن

شاهد أيضاً

كيف بدأ تقليد أشجار عيد الميلاد؟

كتبه لموقع انسايكلوبيديا بريتانيكا: آمي تيكانين نشر بتاريخ: 14/ 12/ 2018 ترجمة: سارة الأعرجي تدقيق: …

هل النبي محمد شخصية حقيقية؟ خلاف بين الباحثين في الدين الإسلامي

كتبه لموقع شبيغل أونلاين: ياسين موشربش نشر بتاريخ: 18/ 9/ 2018 ترجمة: إبراهيم العيسى تدقيق: …