الرئيسية / علوم إنسانية / لِمَ البشرُ قُساة؟

لِمَ البشرُ قُساة؟

كتبه لموقع Vox: شون ايلينغ
بتاريخ: 14/12/2017
ترجمة: الاء عبد الامير
تدقيق: ريام عيسى
تصميم: حسام زيدان

لم تعامل الكائنات البشرية بعضها بقسوة؟ وكيف لنا أن نبرر افعالاً لا انسانية محضة؟

إن التفسير التقليدي الذي يتم اعتماده هو أن الناس قادرون على فعل اشياء فظيعة لغيرهم، فقط عند تجريد هؤلاء من انسانيتهم. فمثلاً في حالة الهولوكوست، كان الألمان على استعداد لإبادة ملايين اليهود جزئياً بسبب الفكر النازي الذي جعلهم يعتقدون أن اليهود هم اقل بشريةً، كجمادات لا تملك الحق بالحرية أو الكرامة أو حتى الحياة.
استاذ علم النفس في جامعة ييل بول بلوم يعتقد أن هذا التفسير للقسوة البشرية هو تفسير قاصر في افضل حالاته. تحدثت معه عن سبب اعتقاده أنه من الخاطئ افتراض أن القسوة تأتي من التجريد من الانسانية وتحدثنا كذلك حول استنتاجه القاتم بأن أي شخص تقريباً قادر على ارتكاب فظائع صادمة في ظل الظروف المناسبة. وفيما يلي نسخة معدلة بشكل طفيف عن محادثتنا.
– هل بإمكانك تلخيص حجتك حول جذور القسوة البشرية؟
– يرمي الكثير من الناس بلائمة القسوة على التجريد من الانسانية، اذ يقولون أن الاستعباد والابادة الجماعية وكل اصناف الشرور مصدرها الفشل في تقدير انسانية الاخرين. باعتقادي إن ذلك ليس خاطئ تماماً، اذ أن الكثير من الاشياء المروعة التي نفعلها للأخرين تنبع من حقيقة اننا لا نراهم كبشر. ولكن حجتي التي طرحتها في مقالي للنيويوركر هي أن ذلك ليس سبباً كافياً. القسوة التي نعامل بها بعضنا والوحشية الحقيقية والأشياء الفظيعة الفاسدة التي نقوم بها لبعضنا البعض، هي في الواقع لأننا نعترف بإنسانية الشخص الآخر. نحن نرى أن الاخرين يستحقون اللوم، نراهم كمسؤولين اخلاقياً، ونراهم هم أنفسهم كقساة، لا يمنحوننا ما نستحق، ونرى أنهم يأخذون اكثر مما يستحقون. وهكذا نعاملهم بشكل فظيع لأننا نراهم تحديداً ككائنات بشرية.
– لطالما ظننتُ أن أي حملة أبادة جماعية او استعباد هي بحاجة امرين: الايديولوجية التي تجرد الضحايا من انسانيتهم وبيروقراطية ضخمة.
-أظن أن الحقيقة هي في مكان ما في المنتصف. انا أختلف معك في أن هذه الامور “مطلوبة”. أعتقد أن الكثير من عمليات القتل الجماعي حدثت مثلما تصفها انت: قام بها اناس لأنهم لم يعتقدوا بأنهم يقتلون بشراً. وهذا ما يدعوه البعض بالعنف الفعّال، هؤلاء لديهم غاية يودون تحقيقها، وهناك اشخاص يعيقون طريقهم، لذلك لا يفكرون فيهم كبشر. وكما هو واضح فإن هذا ما حدث في معسكرات الاعتقال النازية؛ حيث اعتبروا البشر آلات، وتمت معاملتهم كحيوانات لأداء الاعمال. لكن الكثير مما حدث في معسكرات الاعتقال كان مذلاً ومهيناً، إنه عن تعذيب الاشخاص بسبب الاعتقاد أنهم يستحقون ذلك. وعن المتعة في كون المرء مسيطراً على شخص أخر. لكن إن كنت تفكر في هؤلاء الاشخاص كحيوانات، فإنك لن تحصل على هذه المتعة، اذ ليس بإمكانك اهانة الحيوانات، البشر فقط من يمكنك فعل ذلك لهم. وهكذا فإن التجريد من الانسانية هو أمر حقيقي وفظيع، لكنه ليس الصورة الكاملة.
– ماذا يقول ذلك عنا، عن تركيبنا النفسي، وعن قابليتنا على الاتيان بهذا النوع من العنف؟
– فكر بالأمر بهذه الطريقة: نحن جميعاً حساسون للتسلسل الهرمي الاجتماعي ولدينا الرغبة في الحصول على التأييد والاحترام. لذلك نخضع غالباً للضغوط الاجتماعية لبيئتنا. وهذا ليس بالضرورة أمر سيء. فأنا آتي إلى وظيفتي كأستاذ وأريد أن أحسن عملاً، لأني ارغب بالحصول على احترام أقراني. وهذا ليس امراً خاطئاً. ولكن رغبتنا بأن نحسن عملًا على الصعيد الاجتماعي لها جانب غير سارّ. إن كان بإمكانك الحصول على الاحترام عن طريق مساعدة الاخرين فهذا امر رائع. اما اذا كان بمكانك الحصول على الاحترام عن طريق استخدام العنف والاضطهاد للسيطرة على الاخرين جسدياً، فهذا امر مدمّر. وهكذا فإن الكثير يتوقف على محيطنا الاجتماعي وفيما اذا كان يحفز السلوك الجيد او السيء.
– هل يخطئ حدسنا حين يتعلق الامر بأسباب الفظائع التي يرتكبها البشر؟ أترانا متفائلين على غير حق بما يخص الطبيعة البشرية؟
– أظن أن حدسنا يخطئ بكل طريقة ممكنة. فهناك اولاً تلك الخرافة حول كيف أن الاشخاص الذين يرتكبون شروراً هم مضطربون عقلياً او ساديون او وحوش تقودهم المتعة المحضة المتأتية من مشاهدة معاناة الاخرين. اذ أن الحقيقة اكثر تعقيداً من ذلك بكثير. ثم هناك الخرافة المتعلقة بتجريد الاخرين من انسانيتهم، كأن كل من يأتي بفعل شرير هو في الحقيقة يرتكب خطأ بسبب عجزه عن رؤية الجانب الانساني في الاخرين، وكل ما علينا فعله هو توضيح سوء الفهم هذا، كأن نجلس معهم ونقول: يا رفاق، هؤلاء اليهود والسود والمثليين والمسلمين هم بشر مثلكم تماماً. وحينها سيختفي كل الشر. برأيي إن ذلك وهم.
– لِم تراه وهماً؟
خذ في الاعتبار خطاب حركة استعلاء العرق الابيض white supremacy. فأعضاء الحركة مدركين لإنسانية اليهود والسود وأيا كان الاخرون الذين يمارسون التمييز ضدهم، وهذا أمر يرعبهم. واحدة من شعاراتهم هي “انتم لن تحلوا محلنا”. فكر بما يعنيه ذلك، هذا ليس ما ستهتف به إن كنت تظن أن الاخرين صراصير أو اقل من بشر، بل هذا ما ستهتف به بوجه اناس تشعر بالقلق من وجودهم، اناس تظن أن وجودهم يهدد مركزك ونمط حياتك.
– اذن القسوة ليست حادثاً او شذوذاً بل هي أمر محوري حين يتعلق الامر بمن وما نحن عليه؟
– بل هي اشياء كثيرة، ولا اظن أنه سيكون هناك نظرية واحدة لتفسيرها، فبعضها يتولد من التجريد الانساني، وبعضها يأتي نتيجة فقدان السيطرة، وببعضها تنتجه ذريعة الرغبة بالحصول على ما تريد، كالجنس او المال او السلطة او أيا كان. واعتقد أن الكثير من القسوة هو نتيجة التقدير الطبيعي والادراك لإنسانية الاخرين، وهذا الادراك يرتبط فيما بعد بما نمتلكه من رغبات نفسية مهمة، كرغبتنا بمعاقبة أولئك الذين نظن انهم ارتكبوا خطأ. وبشكل عام أعتقد أن أولئك الذين يرتكبون الفظائع هم بشر مثلنا لكن طريقهم انحرف بشكل معين.
– انا أميل للاعتقاد بأن البشر أكثر مرونة مما نعتقد. هل يمتلك الجميع القدرة على فعل كل شيء تحت الظروف المناسبة؟
– حسنا هذا سؤال مثير للاهتمام. انا اؤمن بذلك إلى حد ما. اظن أن اغلبنا قادر على فعل اشنع الاشياء اذا ما توفرت الظروف المناسبة. قد تكون هناك استثناءات، لكننا شهدنا امكانية التلاعب بالأشخاص ودفعهم لفعل اشياء مروعة سواء كان ذلك في التجارب أو في العالم الحقيقي، وفيما قد نجد من يقول “لا، انا لن أفعل ذلك”، فهؤلاء يميلون لأن يكونوا اقلية. ومرة اخرى أجد أن الاجابة البديهية هي أن ظروف المجتمع تحركنا بطرق قد تكون جيدة او سيئة. انا وانت قد نكون اشخاصاً مختلفين تماماً لو كنا نعيش في سجن مشدد الحراسة، لأنه سيكون لزاماً علينا أن نتكيف. رغم ذلك هناك فروق فردية مهمة يجب أن تؤخذ بالحسبان. يمكن للأشخاص تجاوز ظروفهم، لكن هذا امر اكثر ندرة مما نعتقد.
– طرحت سؤالي هذا لأني كنت ادرس الايديولوجيات الشمولية كمنظّرٍ سياسي، وامضيت الكثير من الوقت أفكر بألمانيا النازية وكيف يمكن قيادة مجتمع بأكمله نحو هاوية اخلاقية كتلك. ينظر الناس الى لحظة الجنون تلك ويقولون لأنفسهم: لم اكن لأشارك في ذلك ابداً. لكني لا اظن أن الامر بتلك البساطة على الاطلاق. اظن أنه كان بإمكان اي احد منا أن يشارك في ذلك، وهذه هي الحقيقة القبيحة.
– اظن انك على حق. فنحن لدينا هذا الميل الرهيب إلى المبالغة في تقدير مقدار ما نحمله من الصفات الأخلاقية، نحن الشجعان، وهذا الامر يحمل عواقب اجتماعية سيئة. في الاسبوع الماضي كان هناك مقالاً رائعاً في الواشنطن بوست عن اولئك الذين يقولون “أنهم لا يفهمون موقف ضحايا الاعتداءات الجنسية لأنهم لو تعرضوا لنفس الامر لتمكنوا من منع الاعتداء وردع المعتدي”، هذا الموقف المتذمر يواجهه الضحايا اغلب الاوقات، يتم اتهامهم بأنهم ضعيفون اخلاقياً بشكل ما او لعلهم كاذبون. وتبين أن واحدة من زميلاتي، ماريان لافرانس، قد اجرت دراسة في وقت سابق، حيث سألت مجموعة من النساء عما سيشعرن به لو أنهن تعرضن لأسئلة جنسية، اسئلة مريعة، في مقابلة عمل. وكانت الاجوبة من قبيل “سأترك المكان، وسأذيقهم جحيماً.. وهكذا”، ثم قاموا في الحقيقة بترتيب مقابلة عمل زائفة وجاؤا بنفس الاشخاص، وتم طرح اسئلة جنسية مريعة، فإذا بهن يجلسن صامتات. ما احاول قوله هو أننا لا نتصرف تحت الضغط بالشكل الذي نعتقده او الذي نأمله. وبالتالي نعم، لو كنا انا وانت في المانيا النازية لوددنا أن نعتقد اننا سنكون من الصالحين، الابطال. لكن قد ينتهي بنا الامر كنازيين عاديين.
– اذا كانت اطروحتك صحيحة، فسيكون من الغباء الاعتقاد أن بإمكاننا التخلص من القسوة عن طريق التخلص من تلك الايديولوجيات البغيضة التي تبررها. ففي النهاية الامر يتعلق بنا لا بأفكارنا.
– أظن أن هناك طرقاً كثيرة يمكننا بها أن نصبح اناسا ًافضل، وأظن اننا نصبح اشخاصاً افضل بالفعل. لكن لو كنت محقاً فهذا الامر ليس بسيطاً، اذ أن الاعتراف بإنسانية الاخرين لن يحل مشاكلنا. ففي النهاية نحن بحاجة لافكار افضل، وايديولوجيات افضل. نحتاج حضارة اقل هوساً بالسلطة والشرف واكثر اهتماماً بالكرامة. هذا افضل ما يمكننا فعله لقمع شهيتنا للهيمنة والعقاب. هل انا متفائل أن باستطاعتنا تحقيق ذلك؟ نعم انا كذلك، لكن الامر لن يكون سهلاً.
الرابط باللغة الانكليزية: هنا

عن

شاهد أيضاً

الحقيقة المخيفة حول ميمات الحرب العالمية الثالثة

بقلم: مولي روبرت ترجمة: سرى كاظم تدقيق: ريام عيسى تصميم الصورة: اسماء عبد محمد غيوم …

الهرطقات الست الكبرى في القرون الوسطى ضد الكنيسة

بقلم: جوشوا مارك ترجمة: سيف داوود تدقيق: ريام عيسى تصميم الصورة: اسماء عبد محمد أسست …