الرئيسية / أجتماع / لماذا لا تغير الحقائق ارائنا ومواقفنا ؟

لماذا لا تغير الحقائق ارائنا ومواقفنا ؟

ترجمة: منار ابراهيم
تدقيق: نعمان البياتي
تصميم : مكي السرحان

في عام 1975، دعت زمرة من الباحثين في جامعة ستانفورد مجموعة من الطلاب الجامعيين للمشاركة في دراسة أُجريت حول الانتحار، وأثناء التجربة، قدموا لكل مجموعة زوجًا من الرسائل الانتحارية؛ إحداهما مُزيفة أي كتبها شخص عشوائي، والأخرى حقيقية كتبها شخص آخر انتحر بالفعل. ومن ثمّ، طلب العلماءُ من الطلاب تحديد أيُهما حقيقي وأيهما غير ذلك.
وقد اكتشف بعض الطلاب أنهم قد أبلوا جيدًا في هذه المهمة، حيث اتضح أنهم تمكنوا من تحديد الرسائل الحقيقية لأربع وعشرين مرة من أصل خمسة وعشرين زوجًا، في حين اكتشف البعض الآخر أنه ميؤوس منهم في تحديدها، إذ لم يتمكنوا من التعرف على الرسالة الحقيقية سوى في عشر حالات فقط.
وكما هو الحال في كثير من الدراسات النفسية، لم تكن تلك التجربة سوى خُدعة، فمع أن نصف الرسائل كانت حقيقية بالفعل – تم الحصول عليها من مكتب قاضي مقاطعة لوس أنجلوس – إلا إن نتائجها كانت وهمية وزائفة.
في الواقع، لم يكن هؤلاء الطلاب اللذين لاقوا استحسانًا لنتائجهم، أكثر تركيزًا وذكاءً عن غيرهم من الذين قيل لهم أنهم مُخطئون.
وفي المرحلة الثانية من الدراسة، أماط العلماء اللثام عن هذا الخداع ليكشفوه أمام الطلاب، مُخبرين إياهم أن الهدف الحقيقي وراء هذه التجربة يكمن في قياس استجابتهم على اعتقاد صوابهم من عدمه (الأمر الذي اتضح –فيما بعد-أنه لم يكن حقيقيًا بالمرة هو الآخر).
وأخيرًا، طُلب منهم تقدير عدد رسائل الانتحار التي صنفوها بشكل صحيح، و-على حسب اعتقادهم-تحديد كم متوسط عدد الطلاب اللذين كانوا على صواب.
وهنا، حدث شيء غريبٌ حقًا؛ حيث قال الطلاب ذوو النتائج العليا أنهم قد أبلوا بلاءً حسنًا –أفضل بكثير من الطالب المتوسط – هذا مع العلم أنهم قد أُخبروا للتو أن اعتقادهم هذا لا أساس له من الصحة.
وعلى الجانب الآخر، صرّح أولئك الآخرون -ذوو النتائج المنخفضة-أنهم لم يقوموا بالأمر على نحو جيد، وكانوا أدنى من مستوى الطالب المتوسط – وهو استنتاج خالٍ من الصحة كذلك.
وانطلاقًا من هذه التجربة، خَلَص العلماء إلى استنتاج “أنه ما إن تتشكل الانطباعات والأفكار في العقول، حتى ترسخ فيها وتظل حبيسة داخلها”.
وبعد بضع سنوات، أُجريت تجربة مماثلة مع مجموعة أخرى من طلاب جامعة ستانفورد، وفيها تلقى الطلاب مجموعة من المعلومات حول اثنين من رجال الإطفاء؛ وهما فرانك كيه. وجورج إتش.
وقد أظهرت تلك المعلومات بعضًا عن سيرة فرانك الذاتية حيث أنه – من بين العديد من الأشياء الأخرى – كان لديه طفلة رضيعة، وكان يهوى رياضة الغوص؛ في حين أظهرت سيرة جورج أن لديه طفلاً صغيراً ويفضل لعب الغولف، كما ضمت المعلومات هذه أيضًا استجابات هذين الرجلين على ما أطلق عليه الباحثون اسم “اختبار الخيار المحفوف بالمخاطر”
وطبقًا لما ورد بإحدى نسخ المعلومات، أن فرانك هو رجل إطفاء ناجح الذي -وفقًا للاختبار- عادة ما يتفق مع الخيار الأكثر أمانًا، بينما في النسخة الأخرى، اختار فرانك أيضًا الخيار الأكثر أمانا، لكنه كان رجل إطفاء سيء، والذي أبلغ عنه مشرفوه عدة مرات.
ومرة أخرى -في منتصف الدراسة-أُخبر الطلاب أنهم قد وقعوا في فخ التضليل مرة أخرى، وأنه لا يوجد أي أساس من الصحة لكل هذا، إذ إن المعلومات التي تلقوها كانت وهمية تمامًا، ومن ثمّ طُلب منهم إبداء وجهات نظرهم الخاصة حول: كيف يتصرف رجال الإطفاء في المواقف الخطرة؟
وجاءت الإجابات كالتالي: اعتقد الطلاب الذين تلقوا النسخة الأولى أنه حتمًا سيتجنب هذه المواقف الخطرة، في حين رأى طلاب الفريق الآخر –مَن حصلوا على النسخة الأخرى) أنه سيخوض خضم هذه المُخاطرة بالتأكيد.
وقد ذكر الباحثون أنه حتى بعد “دحض تلك المعتقدات التي اعتنقوها، فلا زال الناس يُخفقون في تعديلها أو إعادة صياغتها بما يتناسب مع الحقائق العلمية.”
لقد أسفرت هذه الحالة عن “فشلٍ مُثيرٍ للإعجاب للغاية”، حيث إن نقطتين مرجعيتين للمعلومات لم تكونا كافيتين لاتخاذهما قاعدة للتعميم.
وقد ذاع صيت دراسات ستانفورد بين الأوساط العلمية، إذ شكل الجدل المُدعي-انطلاقًا من مجموعة من الأكاديميين في عام 1970-أن الناس لا يمكنهم التفكير بشكل مستقيم، صدمة كبيرة؛ إلا إن الأمر لم يعد كذلك، فقد أكدت الآلاف من التجارب اللاحقة صحة هذه النتيجة (وتناولتها بشيء من التفصيل)، حيث بات يعرف كل من تابع البحث – أو حتى اكتفى بالحصول على نسخة منه من موقع “Psychology Today”-أن أي طالب جامعي يتمتع بذاكرة جيدة، يمكنه إثبات أن العديد من هؤلاء الأشخاص ممن تراهم يتسمون بالعقلانية يكونون غير ذلك تمامًا – غير عقلانيين البتة.
ونادرًا ما تبدو هذه الرؤية أكثر أهمية مما هي عليه الآن، ومع ذلك، يظل هناك لغزٌ أساسيٌ: ألا وهو كيف وصل بنا الوضع إلى ما نحن عليه الآن؟
في كتاب، “لغز العقل” “The Enigma of Reason” أحد الكتب العلمية حديثة الصدور من (هارفارد)، حاول كلٌ من العالِمين هوغو مرسييه ودان سبيربر سبر أغوار هذا السؤال والإجابة عنه، وأشار ميرسييه – الذي يعمل في معهد أبحاث فرنسي في ليون – وسبيربر- الذي يتواجد حاليًا في جامعة أوروبا الوسطى في بودابست – إلى إن العقل هو سمة متطورة مثل رؤية الألوان الثنائية أو الثلاثية، فهي تتضح على أعشاب السافانا في أفريقيا، ويجب فهمها عبر هذا السياق.
وبالتجرد مما قد يُدعى بالعلوم المعرفية، جاءت حجة ميرسييه و سبيربر على النحو التالي: يُعد التعاون هو أكبر الميزات التي يتسم بها الإنسان عن غيره من باقي الكائنات، هذا فضلًا عن أن التعاون يصعُب إرساءه واستدامته كذلك. ولأي فرد، تكون الاتكالية هي دائمًا أفضل الحلول.
كما أن العقل ليس موجوداً فقط ليُمكِّننا من حل المشاكل المجردة والمنطقية، أو حتى لمساعدتنا على استخلاص النتائج من البيانات غير المألوفة، بل تطور أيضًا لحل المشاكل التي يطرحها العيش والتكيف في المجموعات التعاونية.
ويستأنف مرسييه وسبيربر قائلين إن “العقل هو تكيف مع العادات الاجتماعية التي طورها البشر لأنفسهم”.
ففي الواقع، عادات العقل التي قد تبدو غريبة أو ساذجة للغاية من وجهة نظر “فكرية” تتضح أنها منطقية ودقيقة للغاية إذا ما نظرنا إليها من منظور اجتماعي “تفاعلي”.
هذا مع الأخذ في نظر الاعتبار ما غدا يُعرف باسم “الانحياز التأكيدي”، وهو ميل البشر لاعتناق وتصديق كل المعلومات التي تتوافق فقط مع معتقداتهم الخاصة، ودحض تلك (المعلومات) الأخرى التي تتعارض مع هذه المُعتقدات وتُهددها.
ومن بين العديد من صور التفكير الخاطئ التي سبق وحددناها، يبقى “الانحياز التأكيدي” هو الأفضل من بينهم، فهو موضوع لكتب دراسية كاملة تستحق التجارب.
وأحد أبرز تلك التجارب، أجريت للمرة الثانية في جامعة ستاندفورد، ولهذه التجربة، حرص الباحثون على جمع مجموعة من الطلاب ممن تتعارض وجهات نظرهم حول عقوبة الإعدام.
وجاءت النتائج مشيرة إلى أن نصف الطلاب كانوا مؤيدين للعقوبة، حيث يؤمنون بفعاليتها في ردع الجريمة، في حين عارضها النصف الآخر معتقدين أنها لا تمت إلى ارتكاب الجرائم بصلة ولا تؤثر عليها.
ولمّا طُلب من هؤلاء الطلاب الرد على الدراستين، قدم أحد الفريقين –مؤيدو العقوبة-بيانات تدعم حجة الردع وتفيد أن الإعدام بالفعل يمنع الجريمة، بينما قدم الفريق الآخر –المعارضون-بيانات طعن لهذه الحُجة ودراسات تؤكد أن عقوبة الإعدام لا تُفيد في منع الجريمة.
ونعم، كما تعتقد فقد كانتا تلك الدراستين زائفتين أيضًا، وفي الواقع، لقد صُممتا فقط لتقديم إحصائيات مُقنعة على حد سواء، وقد قَيم الطلاب المؤيدين لعقوبة الإعدام البيانات المؤيدة للردع بدرجة عالية من المصداقية، في حين أن جاء تقييمهم للبيانات الأخرى المضادة للردع بأنها غير مقنعة؛ والعكس صحيح كما ذكر -فريق المعارضين.
وفي نهاية التجربة، سُئل الطلاب مرة أخرى عن آرائهم، وقد بدا أن أولئك المؤيدون لعقوبة الإعدام قد أصبحوا الآن أكثر تأييدا لها، في حين أن بات معارضوها أكثر عدائية نحوها.
إذا كان العقل مُصمماً لتوليد أحكام سليمة وصائبة، فإنه يغدو من الصعب تصور حدوث خلل أكثر خطورة من “الانحياز التأكيدي”، تخيل -كما اقترح ميرسير وسبيربر-أن هناك فأرًا يُفكر مثلنا، وأن هذا الفأر عازم على تأكيد اعتقاده في عدم وجود قطط حوله، فهذا حتمًا سيودي بحياته، جاعلًا منه وجبة غداء شهية للقط؛ أي لو أنّ هذا الانحياز التأكيدي كان شائعاً لدى الفئران مثلاً، لكان قد أدّى إلى هلاكها.
وبقدر ما يؤدي هذا الانحياز التأكيدي إلى إقناع الناس برفض الأدلة على التهديدات الجديدة– إذ إن الإنسان هنا يعادل القط الذي في الجوار -فإنها سمة ينبغي اختيارها ضده. ففي الواقع، إن بقائنا على قيد الحياة – نحن البشر والفئران – يثبت – كما يدّعي ميرسييه وسبيربر – تمتعنا بوظائف تكيف ترتبط بما لدينا من زيادة في المعاشرة والألفة.
ويفضل ميرسييه وسبيربر مصطلح “الانحياز الذاتي”myside bias”. كما أشاروا إلى إن البشر، ليسوا سذجاً، فنحن بارعون للغاية في التنقيب عن مواطن الضعف وكشفها في الحجج والأدلة التي يُقدّمها الآخرون، إلا إننا تقريبًا – نعمى تمامًا عن كشف مواطن الضعف تلك في أدلتنا نحن.
وقد أوضحت التجربة الأخيرة التي قام بها ميرسييه وبعض الزملاء الأوروبيين بدقة هذا التماثل العجيب، إذ طلبوا من المشاركين الإجابة على مجموعة من المشاكل المنطقية البسيطة، ومن ثمّ شرح إجاباتهم، وبعدها أتيحت لهم فرصة لتعديلها إذا ما وجدوا بها أية أخطاء، إلا إن معظمهم أعربوا عن رضاهم التام عن خياراتهم الأصلية؛ وقلة فقط منهم لم يتجاوزوا ال 15 في المائة منهم غيروا رأيهم في الخطوة الثانية.
وبالانتقال إلى الخُطوة الثالثة، واجه المشاركون إحدى المشاكل نفسها، جنبًا إلى جنب مع إجاباتهم وإجابات أحد المشاركين الآخرين والتي تخلُص إلى استنتاج مختلف هي الأخرى.
ومرة أخرى، أُتيحت لهم الفرصة لتغيير إجاباتهم، إلا إنهم خُدعوا مُجددًا، حيث أن الإجابات التي حصلوا عليها -والتي من المفُترض أنها إجابات مشاركين آخرين كانت إجاباتهم هم-والعكس صحيح، ولكن الخدعة لم تنطلِ على نصف المشاركين تقريبًا والذين أدركوا ما يجري على الفور، في حين أن النصف الآخر –ممن لم يُدرك الخدعة-غدوا أكثر انتقادًا للإجابات؛ لقد رفض بالفعل زهاء الستين بالمائة من المشاركين الإجابات التي كانوا مقتنعين بها من قبل.
فما هذا الخلل إذن؟! يخبرنا ميرسير وسبيربر أن عدم التوازن هذا يعكس المهمة التي طورها العقل ليقوم بها، وهي حمايتنا من أن يُوقع بنا أعضاء مجموعتنا الآخرين، فبالعيش في مجموعات صغيرة من الصيادين، كان أسلافنا يولون اهتمامهم الأول لمكانتهم ووضعهم الاجتماعي، وبالتالي التأكد من أنهم لن يكونوا الأشخاص اللذين سيضعون أرواحهم على المحك ليقوموا بعمليات الصيد في حين يتسكع الآخرون بجوار الكهف؛ فلم تكن هناك فائدة تذكر من التفكير، بينما كانت الفائدة الكبرى تكمن في الفوز بالجدال والمناقشات.
ومن بين العديد من القضايا الكثيرة التي لم يُلق أسلافنا لها بالًا، كانت النتائج الرادعة لعقوبة الإعدام والسمات المثالية التي يجب أن يتمتع بها رجل الإطفاء، كما أنه لم يكن عليهم الدفاع أو المجادلة بشأن بعض الدراسات المُلفقة، أو الأخبار الوهمية الزائفة، أو تويتر، فلا عجب إذن، أن عقلنا اليوم قد يقودنا إلى الفشل في كثير من الأحيان.
وكما أردف ميرسييه وسبيربر في حديثهما قائلين، “لابد وأن هذا أحد الأسباب العديدة التي باستطاعتها تغيير العالم بسرعة كبيرة جدًا للحاق بركب التطور”.
وكما يعتقد عالما المعرفة “ستيفن سلومان”- أستاذ في جامعة براون- وفيليب فيرنباخ -أستاذ في جامعة كولورادو- أن النزعة الاجتماعية هي المفتاح لكيفية عمل العقل البشري، أو على الأرجح خلله -لنكون أكثر دقة.
فهم يفتتحون كتابهم – المدعو “وهم المعرفة: لماذا لا نفكر وحدنا”-بإلقاء نظرة على المراحيض.
لابد وأن كل شخص –تقريبًا-ليس فقط في الولايات المتحدة، بل في جميع أنحاء العالم المُتقدم، يعرف ما هي المراحيض، فالمرحاض النموذجي يحتوي على وعاء خزفي مملوء بالمياه، عندما ينخفض مقبضه، أو عند الضغط على الزر، يمتص المرحاض الماء – بل وكل ما يوضع فيه كذلك-ومن هناك ينقله في أنبوب إلى نظام الصرف الصحي، ولكن كيف يحدث هذا فعلًا؟
في دراسة أجرتها جامعة ييل، طُلب من طلاب الدراسات العليا تقييم فهمهم للأجهزة اليومية، بما في ذلك المراحيض والسحابات وأقفال الأسطوانات، ومن ثمّ، طُلب منهم كتابة تفسيرات مفصلة خطوة بخطوة لآلية عمل هذه الأجهزة، ومن ثم تقييم مُعدل فهمهم مرة أخرى؛ على ما يبدو، في الواقع، لقد كشف هذا المجهود الذي بذله هؤلاء الطلاب للقيام بمهمتهم جهلهم، الأمر الذي انعكس على تقييماتهم الذاتية التي جاءت منخفضة (هذا حيث اتضح أن المراحيض تبدو أكثر تعقيدًا مما تبدو عليه).
وقد رأى سلومان وفيرنباخ هذا التأثير في كل مكان، حيث أطلقوا عليه “وهم العمق التفسيري”، إذ يتوهم الناس أنهم يعرفون أكثر مما يعتقدون حقًا، وما يسمح لنا أن نستمر في تبني هذا الاعتقاد ونؤمن به هو الناس الآخرين؛ ففي حالة المرحاض، لقد صممه شخص آخر لأتمكن أنا من تشغيله بسهولة، وهذا شيء يجيده البشر حقًا، لقد كنا نعتمد على خبرة بعضنا البعض منذ أن اكتشفنا معًا كيفية الصيد، والذي كان على الأرجح علامة فارقة في تاريخ تطورنا البشري.
حسنًا، هل نتعاون حقًا؟ يقول سلومان وفيرنباخ، أننا بالكاد نستطيع معرفة أين ينتهي فهمنا الخاص وأين يبدأ فهم الآخرين.
وأردفوا قائلين: “إن إحدى الآثار المترتبة على الطبيعة التي نُقسّم بها العمل المعرفي” هو أنه لا يوجد “حدود فاصلة بين أفكار شخص ما ومدى معرفته بأفكار غيره من أعضاء المجموعة الآخرين”، كما أن تلك الحالة من عدم وجود حدود فاصلة أو إذا شئت أن تطلق عليها -الفوضى، هي أيضًا هامة وضرورية لما نعتبره تقدمًا، إذ إنه في الوقت الذي يخترع فيه الناس أدوات جديدة من شأنها خلق طرق أخرى للمعيشة، فإنهم في الوقت ذاته يخترعون عوالم جديدة من الجهل، فإذا أصر الجميع -على سبيل المثال- على إتقان مبادئ صنع الأدوات المعدنية قبل الحصول على سكين، فإننا لن نكون قد تقدمنا كثيرًا عن العصر البرونزي.
ولكن عندما يتعلق الأمر بالتكنولوجيا الجديدة، فهُنا تسود حالة من الفهم المنقوص، وتتجلى تلك المتاعب التي يسببها لنا ذلك بوضوح في المجال السياسي، هذا بحسب تصريحات سلومان وفيرنباخ.
فبالنسبة لي يبدو أن تنظيف المرحاض دون معرفة آلية عمله يختلف جملة وتفصيلًا عن فكرة تأييد أو معارضة حظر الهجرة دون معرفة لما أتحدث عنه، فهذا شيء وذاك شيء آخر تمامًا وشتان بينهما.
ويذكر سلومان وفيرنباخ استطلاعًا أُجري في عام 2014، بعد فترة قصيرة من ضم روسيا للأراضي الأوكرانية في شبه جزيرة القرم، وفيه، سُئل العامة حول عن أراءهم عن الكيفية التي يجب أن تتفاعل فيها الولايات المتحدة مع الأمر، وأيضًا عمّا إذا كان بإمكانهم تحديد أوكرانيا على الخريطة، فكلما ابتعدنا عن الأراضي الأوكرانية، كانوا يفضلون التدخل العسكري (كان المستجيبون غير متأكدين من موقع أوكرانيا حيث كان التخمين المتوسط خاطئًا بمسافة 1800 ميل، أي تقريبًا ما يعادل المسافة من كييف إلى مدريد.)
وقد أسفرت الدراسات الاستقصائية الخاصة بالعديد من القضايا الأخرى عن نتائج مزعجة، وكتب سلومان وفيرنباخ قائلين إنه “كقاعدة عامة، في الغالب لا تنبثق المشاعر القوية المتعلقة بقضية ما من فهم عميق”.
وهنا يتضح أن اعتمادنا على عقول الآخرين لا يزيد الوضع إلا حرجًا ويفاقم المشكلة ويعززها، فعلى سبيل المثال، إذا كان موقفك من “قانون الرعاية بأسعار معقولة” لا أساس لصحته، وأنا أعتمد عليه، إذن فرأيي هو الآخر لا أساس له، وعندما أتحدث مع “توم” حول الأمر، ويقرر أنه يتفق معي، يكون رأيه هو الثالث لا أساس له من الصحة، ولكن الآن ثلاثتنا نتفق مما يؤكد ويدعم وجهات نظرنا ويزيد من استحساننا لها.
وبهذا، خلص سلومان وفيرنباخ إلى ملاحظة هامة مفاداها أن “المعرفة المجتمعية قد تغدو أمرًا خطرًا في هذه الحالة”.
وقد أجرى الاثنان تجربة المرحاض مُجددًا، مستبدلين –هذه المرة-السياسة العامة للأدوات المنزلية، ففي دراسة أجريت عام 2012، سألوا الناس عن موقفهم (العقلي) من بعض الأسئلة مثل: هل ينبغي أن يكون هناك نظام رعاية صحية بدافع واحد؟ أو هل يجب أن تكون أجور المعلمين قائمة على جدارتهم؟ وطُلب من المشاركين تقييم مواقفهم بناءً على مدى توافقهم أو تعارضهم على هذه المقترحات، وبعد ذلك، طُلب منهم توضيحًا–مفصلًا للغاية-حول النتائج المترتبة على تطبيق كل من هذين الاقتراحين، وقد واجه معظم الناس مشكلة في هذه المرحلة، وعندما سُئلوا للمرة الثانية عن تقييم آرائهم، فإنهم تراجعوا في شدة تأييدهم لها.
وقد مثلت هذه النتيجة المفاجئة – كما يرى سلومان وفيرنباخ-شمعة صغيرة مضيئة في عالم من الغياهب والظُلمات، فإذا قضينا-نحن أو أصدقائنا أو حتى هؤلاء المثقفون على قناة سي إن إن – وقتًا أقل في إلقاء المواعظ، وبدلًا من ذلك وجهنا جُل اهتمامنا على محاولة العمل عبر الآثار المترتبة على المقترحات السياسية، سندرك مقدار ما نعانيه من جهل، وعليه سنغدو أكثر اعتدالًا ومرونة في وجهات نظرنا.
“وهذا النوع من التفكير قد يكون هو الوحيد الذي سيقوى على تحطيم وهم العمق التفسيري وتغيير مواقف الناس وأرائهم”، بحسب ما ذكر سلومان وفرينباخ.
فالطريقة الوحيدة التي يجب أن نرى العلم بها هي بالنظر إليه كنظام يُصحح ميول الناس وتوجهاتهم الطبيعية.
ففي المختبرات الجيدة، عادة لا يكون هناك مجال للانحياز الذاتي، إذ تخضع النتائج للتكرار والتجارب في مختبرات أخرى، ويُشرف عليها باحثون آخرون ليس لديهم أي دافع لتأكيدها، ويمكن الاعتقاد جدلًا أن هذا النظام قد أثبت بالفعل نجاحًا كبيرًا، فبالطبع قد تهيمن الخلافات على المجال في أي وقت من الأوقات، إلا إنه في النهاية تسود المنهجية وتُرسي دعائمها، فالعالم يتحرك دائمًا نحو الأمام، حتى وإن ظللنا عالقين في مكاننا.
في كتاب “إنكار إلى القبر: لماذا نتجاهل الحقائق التي ستنقذنا” -للمؤلفين جاك جورمان -طبيب نفسي-وابنته سارة غورمان -اختصاصي الصحة العامة-تم التدقيق في الفجوة بين ما يخبرنا به العلم وما نقوله نحن لأنفسنا، وصبوا جُل اهتمامهم حول تلك المعتقدات المستمرة التي ليست فقط كاذبة بشكل واضح، بل إنها أيضًا قد تكون قاتلة، مثل الاقتناع السائد بخطورة اللقاحات، فبطبيعة الحال، لا يُجرى تطعيم أحد بلقاحات خطرة، إذ إن هذا هو السبب الرئيسي لإنتاجها، “فالتحصين -بحسب تصريحات عائلة جورمان- يُعد أحد الانجازات التي شهدها الطب الحديث” ولكن بغض النظر عن عدد الدراسات العلمية التي خلصت إلى أن اللقاحات آمنة، وإنه لا توجد أي صلة تربط بين التحصين والتوحد، إلا إن مضادات الذهان لا تزال مجهولة الهُوية والتأثير (ومن جانبهم، يمكنهم الاعتماد –نوعًا ما- على دونالد ترامب، الذي صرح قائلًا إنه على الرغم من أنه وزوجته قاما بتطعيم ابنهما -بارون- إلا إنهما رفضا القيام بذلك وفقًا للجدول الزمني الذي أوصى به أطباء الأطفال).
وترى -عائلة جورمان-إن طرق التفكير التي تبدو الآن مُدمرة ذاتيًا لابد وأن كانت في مرحلة ما مُتقبلة لدى الجميع ومتكيفة مع طرق الحياة.
كما خصصوا العديد من الصفحات في كتابهم لتناول الانحياز التأكيدي، والذي أرجعوه إلى بعض العناصر الفسيولوجية، مؤكدين ذلك ومستشهدين بالبحوث التي تشير إلى إن الناس يغمرهم فيض من السعادة الحقيقية – وزيادة في إفراز هرمون الدوبامين – عند معالجة المعلومات التي تُدعم معتقداتهم، وفي هذا يقولون إنه “من الجيد أن نظل متمسكين بمعتقداتنا حتى وإن كنا مُخطئين”.
لم تُرد عائلة جورمان فقط تصنيف وتوضيح الطرق الخاطئة التي نسلكها، فهم يريدون تصحيحها كذلك، كما اعتقدوا أيضًا أنه لابد وأن هناك طريقة ما لإقناع الناس أن اللقاحات جيدة للأطفال وغير ضارة وأن المسدسات خطيرة (وهذا اعتقاد آخر واسع الانتشار إلا أنه غير مؤكد إحصائيًا، مفاداه أن امتلاكك سلاحاً يجعلك أكثر أمانًا -فهم يودون إثبات عدم صحته كذلك)، إلا إن المشاكل ذاتها -التي سبق ذكرُها-تقف حجر عثرة أمامهم، ولا يبدو أن تقديم المعلومات الصحيحة للناس أمر فعال؛ فهم ببساطة يُهملونها ويقللون من شأنها.
ولكن ماذا عن مناشدة مشاعرهم بدلًا من عقولهم؟ قد تُجدي نفعًا بالفعل وتكون أكثر فعالية، ولكن القيام بذلك لا بد وأنه يتناقض مع هدف تعزيز العلم السليم.
“فالتحدي لا يزال قائمًا” هذا ما ذكروه في ختام كتابهم “ويكمن هذا التحدي في اكتشاف أفضل الطرق التي يمكن بها تناول ومعالجة الدوافع التي تؤدي إلى الاعتقادات العلمية الخاطئة”.
والعجيب أن كل هذه الكتب “لغز العقل” و “وهم المعرفة” و “إنكار إلى القبر” كُتبت بالفعل قبل انتخابات نوفمبر، ومع ذلك فإنها تتوقع كيليان كونواي وصعود “حقائق بديلة”.
في الواقع، لقد غدا الأمر -في هذه الآونة-أشبه بالشعور أن البلاد بأسرها واقعة تحت تجربة نفسية هائلة، إما أنه لا يديرها أحد على الإطلاق أو أن السياسي ستيف بانون هو من يفعل ذلك، وقد يكون لدى العلماء والباحثين القدرة على التفكير وإيجاد حل ما، إلا إن المؤلفات العلمية -في هذه المسألة-لا تنم عن الشعور بالاطمئنان.

المصدر هنا

عن

شاهد أيضاً

الأشخاص الحكماء أقل شعوراً بالوحدة! إليكم الأسباب

بقلم: مات دايفيس لموقع: Big Think ترجمة : رهام بصمه جي تدقيق: ريام عيسى  تصميم …

العالم يشهد تراجعاً سكانياً بعد عام 2064 هل حدوث مثل هذا الأمر سيئاً؟

الكاتب: ديريك بيريس التاريخ: 21 تموز/بوليو 2020 ترجمة: الطيب جابر عطا الله تدقيق: ريام عيسى …