الرئيسية / أجتماع / مؤشرات الفقر تهبط ومؤشرات الجريمة تتعاظم !

مؤشرات الفقر تهبط ومؤشرات الجريمة تتعاظم !

ترجمة: محمد امين الشامي

تدقيق: نعمان البياتي

قام مكتب التحقيقات الفيدرالي بإصدار تقريره الجنائي الرسمي لعام 2016، ولن تكون الدهشة حدثاً، إذا ما علمنا أن الجرائم المترافقة بالعنف قد ارتفع مؤشرها مذ صدر تقرير 2015. كما لن يستهجن أحد الأمر حين يلحظ أن الارتفاع الأبرز شهدته مدننا التي تتمتع بالكثافة السكانية الأعلى. فعلى سبيل المثال، وإذا ما أخذنا جرائم القتل والقتل غير المتعمد بعين الاعتبار، نجد أنها تزودنا بالبيانات الجنائية الأكثر دقة. فقد شهدت كل المدن الأميركية ارتفاعاً في جرائم القتل، وصلت نسبته إلى 8.8 % منذ العام 2015، في حين تجاوز معدل عمليات القتل نسبة 20% في المدن التي يصل عدد سكانها إلى المليون أو أكثر. ويبرز عامل إحصائي هام يشير إلى ضلوع الأمريكيين من أصل أفريقي في هذا كضحايا أو منفذين. في مدينة شيكاغو مَثل السود ما نسبته 78% من ضحايا العمليات الإجرامية في عام 2016 (نسبتهم بالنسبة لسكان المدينة 32%)، أما على مستوى الدولة (نسبتهم تصل إلى 13% من التعداد الكلي للسكان) فقد زادت نسبتهم 52% من عدد الضحايا.
في ذات الوقت الذي تم فيه نشر هذه الأرقام الصادمة، قام مكتب الإحصاء بنشر كم من الأرقام المتناقضة تتعلق بمعدل الفقر. فقد شهدت مناطق المترو الخمسة وعشرون الأكثر اكتظاظاً في الولايات المتحدة تدنياً في معدل الفقر ما بين عامي 2015 – 2016. وفيما يتعلق بالسكان الأميركيين من أصل إفريقي ممن يعيشون في فقر مدقع (بنسبة تقل عن 50 % تحت خط الفقر)، وهم السكان الأكثر عرضة لخطر جرائم العنف، فقد بين المكتب أن الوضع يشهد نسبة انخفاض متواضعة لكن ثابتة منذ عام 2012. ففي 2012 كان ما نسبتهم 13.5% من السكان السود يعيشون في فقر عميق، في حين انخفض ذلك المعدل بإجمالي بلغ 807000، أي ما نسبته 11 %.
تعرض هذه الإحصائيات قراءة زائغة أربكت المحللين لما ينوف على القرن، عند عرضها معاً. فمن جهة، تفيدنا معرفتنا أن جرائم العنف يرتكبها المنتمون إلى طبقات المجتمع منخفضة الدخل أكثر من أولئك الذين ينتمون للطبقات متوسطة وعالية الدخل. وفي حين يتركز وجود الفقراء في جيوب واقعة في الضواحي، فإن هذه الأماكن هي التي تشهد عادة النسبة الأعلى من الجرائم. من جهة أخرى، ليس من الضروري بمكان أن تؤثر التطورات الاقتصادية العامة في خفض معدلات جرائم العنف، وهذا ينسحب حتى على حالات التقدم التي ترتقي بظروف الفقراء وآفاق مستقبلهم. وفي ذات السياق، فالتراجعات الاقتصادية لا تؤدي بالمحصلة إلى انطلاق موجات من الجرائم.
لطالما كان عدم التلازم هذا بين حالات الركود الاقتصادي أو حالات الازدهار الاقتصادي وظاهرة جرائم العنف واقعاً صبغ التاريخ الأمريكي على مدى سنيه، أو لنقل منذ أواخر القرن 19، عندما صار بين أيدينا بيانات تتمتع بقدر من المصداقية.
فلنستقرئ حالات الركود الاقتصادي الكبرى. عانت البلاد من ركود كبير ابتدأ عام 1893، ومن تدهور أخف وطأة عام 1907، ثم جاء الكساد العظيم في الثلاثينات، ومؤخراً، الركود الكبير الذي بدأ في أواخر عام 2007 وامتد حتى عام 2009. في اثنتين من هذه الكوارث الاقتصادية، التي أدت إلى بقاء الملايين بلا عمل وشهدت تفشي الجوع والبؤس بين الألوف، لم ترتفع نسبة جرائم العنف مطلقاً. ففي إحداهما، ونعني بها الكساد العظيم الذي شهده عقد الثلاثينات، ارتفع معدل الجريمة بداية ثم تراجع بعد عام 1934، على الرغم من حدوث تدهور اقتصادي آخر عام 1937. وفي أحدث حالات الركود الممتدة ما بين 2007-2009، شهد معدل الجريمة تراجعاً متسارعاً، كجزء من تدني نسب الجريمة الذي شهدته فترة التسعينات والذي ربما (وربما لا) وصل إلى نهايته عام 2015.
يعتبر الكساد الذي شهده عام 1893 واحداً من أكثر الأمثلة التوضيحية لانعدام التلازم ما بين الظروف الاقتصادية ومعدل جرائم العنف. لم يزدد عدد سكان المدن في أميركا في تسعينات القرن التاسع عشر وحسب، بل إن الظروف المعيشية في تلك المدن، وبالمقاييس الحالية، كانت حاضنات للجريمة أيضاً.
كانت الجموع التي سكنت المدن فقيرة، وغالباً ما كان فقرها مدقعاً. فقد كانت تتكدس بكثافة في أكثر المنازل بؤساً، عندما لا يدفعهم الفقر إلى النوم في الأماكن العامة أو في أبنية مديريات الشرطة. لم يكن بمقدور سكان المدن المنتمين إلى الطبقة ما دون الوسطى إعالة أبنائهم الذين تجاوزوا سن 12، مما كان يؤدى بشباب المدن إلى التسرب من المدارس بغية العمل لساعات طوال أو الانضمام إلى عصابات الشوارع ليقوموا بأعمال السرقة كي يبقوا على قيد الحياة.
خضعت المدن لسلطة الأنظمة البلدية التي ينخر فيها الفساد مثل (تاماني هول) سيئة الذكر في نيويورك. فأفراد الشرطة، الذين كانوا أساساً قوة أمنية تابعة لحكومات المدن الفاسدة، كانوا بلا تدريب ولا كفاية مهنية بل وكانوا عدوانيين، ولهم مطلق الحرية في استخدام هراواتهم، لاسيما عند التعامل مع “الطبقات الخطرة” من المهاجرين الفقراء.
تعرضت جماعات المهاجرين وبشكل روتيني إلى التمييز العنصري بسبب قوميتهم أو دينهم أو مظهرهم، ومعهم الأميركيون من أصل أفريقي، الذين بدأوا لتوهم هجرتهم باتجاه الشمال (ما يزيد عن 80% من سكان مدينة نيويورك كانوا من أصول أجنبية في عام 1890)، وكانوا معزولين اجتماعياً من قبل أفراد الطبقة الوسطى في المدينة، والتي هربت إلى ضواحي أقل عرضة للتهديد.
وعلى الرغم من هذه الظروف، كان معدل جرائم العنف منخفضاً نسبياً. فما بين عامي 1890 و1899 شهدت مدينة نيويورك ما مجموعه 675 جريمة قتل، وهو أقل مما شهدته جوثام في سنة واحدة ما بين عامي 1970 و1990. ففي عام 1970 وحده وقعت 1117 جريمة قتل، وتلك كانت السنة الأفضل مقارنة بما شهدته سنوات ذينك العقدين الموبوئين بالجرائم. في تسعينات القرن التاسع عشر لم يتجاوز معدل ضحايا جرائم القتل 4 لكل 100000. على النقيض من ذلك، كانت نسبة الضحايا في مدينة نيويورك ما بين عامي 1970 و1985 تصل إلى 21.5 من كل 100000.
ولأن حالات الركود لا تنتج بالضرورة أمواجاً من الجريمة، فكذلك حالات الانتعاش الاقتصادي لا تضمن انخفاض معدل الجريمة. فقد كان عقد العشرينات من القرن الماضي يتمتع بمعدل جريمة عال، مع نسب ضحايا جرائم القتل وصلت إلى 9 أشخاص من كل 100000، وكونه عصر الحظر، فقد ساهمت حروب عصابات المسكرات في رفع معدلات الجرائم. ربما يكون عقد الستينات المثال الأنسب لنسبية الاقتصاد الجيد \ معدل الجريمة المرتفع. فمع الذكريات التي لا تزال حاضرة لأعمال الشغب والاحتجاجات والتفجيرات، نغفل أحياناً حقيقة أن عقد الستينات شهد ازدهاراً اقتصادياً متميزاً. وفي الحقيقة، ولغاية هذه المرحلة ربما لم يعِ الأميركيون الوضع بشكله الأنسب، هذا من الناحية الاقتصادية. فقد كان ستة من أصل عشرة يمتلكون منازل خاصة بهم، وثمانية من كل عشرة يمتلكون سيارة. وهبط عدد ساعات العمل الأسبوعية إلى40 ساعة، فيما ازدادت القوة الشرائية للعائلة إلى 30 % خلال العقد السابق. ووصلت معدلات البطالة إلى 4.8 % لكامل فترة السنوات العشرة، لتهبط إلى 3.5 % عام 1969.
تعرفون بقية هذه القصة. فمنذ أواخر الستينات عانت الولايات المتحدة من الارتفاع الثابت لمعدل جرائم العنف إلى أقصاه، ولربما كان الأقصى في التاريخ الأميركي. ووقع من الأميركيين ضحايا للجرائم ما بين عامي 1970 و1995، ما يزيد على نصف مليون ضحية، وهذا أكثر مما سقط في كل الحروب التي خضناها بعد الحرب العالمية الثانية.
إن لم تكن الظروف الاقتصادية تستطيع تفسير أسباب ارتكاب جرائم العنف، فما الذي يمكنه؟ أول ما يتوجب تذكره هو أن جرائم العنف مختلفة. فجنايات السلب، وعلى رأسها السرقة، دافعها الرئيس اقتصادي. فالسلب (عملية سرقة بلا عنف) قد تزداد معدلاته في الأزمنة الصعبة. فإذا ما استيأس الناس من الحصول على أساسيات الحياة سيلجؤون إلى تحصيلها بالسرقة. لكن، جرائم العنف، مثل القتل، والقتل غير المتعمد، والاغتصاب\ التهجم الجنسي، والسطو والاعتداء، لا يكون الدافع إليها هو النقود عادة.
إن القتل والقتل غير المتعمد والاعتداء، تستند في الأساس إلى عامل الصراع. فالغضب والمشاحنات التي تشعل أوارها المسكرات والأسلحة، هي التي تذكي نار الجرائم. كما أن الاغتصاب\الاعتداء الجنسي أيضاً لا محرض اقتصادي لهما، بل هي مدفوعة بالرغبة في الوصول إلى الإشباع الجنسي من خلال استعمال القوة والعنف. أما السطو، فحسب تعريفه هو عملية سلب باستخدام التهديد أو استعمال القوة، فهو جريمة مختلطة، تتضمن كلا ً من الدوافع الاقتصادية والرغبة في تهديد أو إلحاق الأذى بالضحية. لذا فإن السطو قد يزداد، وقد لا يزداد معدله أثناء حالات الركود الاقتصادي. لكنه بالتأكيد ارتفع من ناحية النسبة خلال فترة الستينات الماضية على الرغم من حالة الاقتصاد الإيجابية.
إذن، ليس من المدهش بمكان أن جرائم العنف ليست مرتبطة بالظروف الاقتصادية العامة. لكن، ماذا عن الرابط بين جماعات الدخول المنخفضة والعنف المشار إليه في بداية هذا المقال؟ كيف يمكن تفسيره؟
يكمن الجواب في القيم التي يتمتع بها المنتمون إلى الطبقتين الاجتماعيتين المتوسطة والعليا. فهم يتحاشون العنف، ويلجؤون إجمالاً إلى فض الخلافات بالحسنى، عبر اللجوء إلى القانون أو المحاكم إن اقتضى الأمر ذلك. وإذا ما تورطوا في جريمة فهي لن تعدو أن تكون جناية كليلة بلا عنف، أو عملية احتيال. وعلى طرف النقيض، فما الذي لدى الذكر الشاب المستقل ذو الدخل المنخفض ليخسره إن هو تورط في عراك أو جريمة قتل؟ والجواب في حقيقة الأمر هو “الكثير”. لكن، ولأن دين الشباب الاندفاع وديدنهم التهور، ولا يعيرون العواقب هماً، أي أنهم يفتقدون قيم الطبقة الوسطى، فهم لا يتفكرون كثيراً بالمستقبل، حتى ولا مستقبلهم الشخصي.
فما هي، الآثار السياسية لكل هذا؟ ستتلاشى مقومات جرائم العنف لذوي الدخل المنخفض حالما يرتقون السلم الاجتماعي. هذا ما جرى مع المهاجرين الإيرلنديين في القرن التاسع عشر والذين كانت تورطاتهم الجنائية العنيفة مقاربة لتورطات الأميركيين من أصل أفريقي في القرنين العشرين والحادي والعشرين.
لكن من الذي يذكر الآن (أو يعرف عن) جرائم الأميركيين من أصل إيرلندي؟ ذلك يُعزى إلى اندماج الإيرلنديين، وارتقاؤهم إلى الطبقة الوسطى، وهو ما أزاحهم من قائمة مرتكبي جرائم العنف. استغرق الأمر جيلين أو ثلاثة، لكن الإيرلنديين انصهروا في البوتقة. وإنني لأؤكد بشدة أنه بتغلبنا على تاريخنا الطويل والمحزن من العنصرية، فالأمر عينه سيحدث للأفارقة الأميركيين.
فهل يعني هذا أن ترقي الجاليات إلى الطبقة الوسطى، كما دأب الليبراليون على التوصية طويلاً، هو شكل من أشكال السيطرة على معدلات الجريمة؟ بشكل ما، نعم. فما هي السياسات، إذاُ، التي ستحقق هذا الهدف على وجهه الأمثل؟ عند هذا الحد يظهر الانقسام الايديولوجي. فأولويات الحقوق كما يعكس طرح إدارة ترامب الجديدة بخصوص الضرائب، على سبيل المثال، تقف في صف النمو الاقتصادي على حساب توسيع الثروة والتوظيف، وهذا ما جعله عرضة للاستهزاء من قبل اليسار كونه يدلل على اقتصاد هزيل. من جانبهم، يدفع اليساريون إلى الواجهة سياسات إعادة توزيع الثروة، مثل الرعاية الطبية للجميع، للعمل على خفض الأعباء المالية عن كاهل الفقراء. أيما طريق اخترنا، فلن نعلم يقيناً، ولحين مرور المزيد من الأجيال، إن كانت السياسات التي تبنيناها اليوم قد قللت من حجم الطبقة الفقيرة، وساهمت في جعل جرائم العنف موضوعاً تنحصر أهميته في الإطار التاريخي وحسب.
المصدر هنا

عن

شاهد أيضاً

السير الحتمي نحو الكارثة الاقتصادية

بقلم: ايملي ستيورت بتاريخ: 20/7/2020 ترجمة: رهام عيروض بصمه جي تدقيق: ريام عيسى تصميم الصورة: …

على مر التاريخ ، كان للأوبئة آثار اقتصادية عميقة

الآثارالاقتصادية على المدى الطويل ليست دائما مخيفة تاريخ النشر: 12 مارس 2020 ترجمة :سرى كاظم …