الرئيسية / علوم إنسانية / لماذا نكذب؟

لماذا نكذب؟

ترجمة: أسماء إبراهيم
تصميم الصورة: حسن عبد

ربما يكون الصدق هو السياسة المثلى للتعامل, لكن الخداع والكذب هما جزء من طبيعتنا البشرية.
في خريف العام 1989 استقبلت جامعة برنستون في صفوف طلابها الجدد شاباً يدعى ألكسي سنتانا, حظيت قصة حياته بإعجاب استثنائي من لدن لجنة القبول.
كان الشاب قد تلقى بالكاد تعليماَ رسمياً. فقد قضى تقريبا كل مراهقته وحيداً, يعيش في عراء ولاية يوتاه حيث يرعى الماشية, ويربي الأغنام و يقرأ الفلسفة. ولكي يصبح عدّاءاً درّب نفسه على العدو في صحراء Majave.
لقد أصبح سنتانا اشبه بالنجم في حرم الجامعة, أما على المستوى الاكاديمي فقد ابلى أيضا بلاءاً حسنا من خلال الحصول على تقديرات ممتازة في كل فصل تقريبا. إن تحفظه وخلفيته الاستثنائية أضفت عليه نوع من الجاذبية الغامضة. عندما سأله شريك حجرته عن وضع السرير الذي يرتاح فيه, فأجاب بأنه لم يعرف النوم سوى على الارض. لقد بدا منطقيا جدا إن شخصا كان قد قضى حياته وهو ينام في العراء لا يكّن أي حب تجاه السرير.
غير إن قصة سانتانا كانت كذبة. فبعد تسجيله في الكلية بثمانية عشر شهراً, قامت امرأة بالتعرف عليه تحت هوية شخص يدعى جيه هنتس مان كان في ثانوية بالو ألتو في كاليفورنيا قبل ست سنوات. لكن حتى هذا لم يكن اسمه الحقيقي. فقد علم مسؤولو برنستون أخيرا انه كان يُدعى في الحقيقة باسم جيمس هوغ. ويبلغ من العمر احدى وثلاثين سنة وقد حُكم عليه بالسجن لحيازته أجزاء دراجة مع مواد اخرى مسروقة وقد تم اعتقاله من جامعة برنستون بالأصفاد. ومنذ ذلك الحين تم اعتقاله عدة مرات بتهم سرقة. وفي نوفمبر, وعندما اعتقل بتهمة السرقة في أسبين, كولورادو حاول تخليص نفسه بالتظاهر بكونه شخص أخر.
يغصَ التاريخ البشري بالكذبة المحترفين والمتمرسين أمثال هوغ. وهناك الكثير من المجرمين الذين يحيكون الاكاذيب والخدع للحصول على موارد ليست من استحقاقهم. كما فعل المُمول بيرني مادوف, بخداع المستثمرين لأعوام كثيرة بمبالغ تقدر ببليونات الدولارات حتى انهيار نظامه الشهير بسلسلة بونزي. بعض هؤلاء المخادعين هم من السياسيين الذين يكذبون للاستيلاء على السلطة او للتشبث بها, كما فعل ريتشارد نيكسون حين أنكر أي دور له في فضيحة ووترغيت الشهيرة.
يكذب الناس أحيانا في محاولة منهم للنفخ في صورهم- ربما يكون هذا الدافع افضل ما يبرر ادعاء دونالد ترمب الكاذب بأن الحشد الذي حضر حفل تنصيبه كان اكبر من ذلك الذي حضر تنصيب الرئيس باراك اوباما. كما وإن الناس يكذبون كي يخفوا سوء أفعالهم, كما فعل السباح الامريكي رايان لوكتي Ryan Lochte اثناء اولمبياد صيف 2016 حين ادعى تعرضه للسرقة من قبل مسلحين في محطة وقود بينما كان الأمر في حقيقته صداماً مع حراس أمن مسلحين بعد خروجه مع زملائه بالفريق وهم تحت تأثير الخمر من أحد الحفلات وقيامهم بإتلاف ممتلكات.
حتى العلوم الاكاديمية-العالم الذي يستوطنه كثيرا من الناس الذين لا همَ لهم الا الجري وراء الحقيقة- قد تبين بأن كثيراً من المنتمين لها فاسدون ومخادعون كالفيزيائي جان هندريك شن Jan Hendrick Schin الذي ثبتَ بالدليل أن انجازاته المزعومة في بحوث جزيئات شبه الموصلات كانت مزورة.
اكتسب هؤلاء الكَذَبة سوء السمعة بسبب فظاعة وبذاءة ومدى الاذى الذي تسببه اكاذيبهم. مع ذلك لم يؤدي الاحتيال الذي مارسوه الى تمييزهم كحالات شاذة كما قد نعتقد. فالأكاذيب التي يقولها السياسيون المتباهون والمخادعون الكَذَبة تقع على قمة هرم الاكاذيب التي ميزت السلوك البشري منذ عصور.
يظهر الكذب كصفة يبرع فيها معظمنا. فنحن نكذب في صغائر الامور وكبارها, على الغرباء والزملاء وعلى الاصدقاء والأحبة. فقدرتنا على الخداع أساسية تماماً كحاجتنا للثقة بالآخرين ,وهذه الحاجة هي التي تجعلنا ساذجين في كشف الأكاذيب. فالخداع يدخل ضمن طبيعتنا البشرية لذا فأنه من الصدق الكثير القولَ أن الكذب هو ما يميزنا كبشر.
تم توثيق انتشار الكذب منهجيا من قبل بيلا دي باولو, عالمة النفس الاجتماعي في جامعة كاليفورنيا-سانتا بربارا. خلال العقدين المنصرمين سألت دي باولو و زملائها 147 بالغاً ان يدوّنوا لمدة اسبوع كل موقف حاولوا فيه أن يضللوا شخصاً آخر. فوجد الباحثون ان أفراد العينة قد كذبوا بمعدل مرة أو اثنين خلال اليوم. معظم هذه الاكاذيب كانت بيضاء هدفها إخفاء جوانب عجز الشخص أو الخوف على مشاعر الاخرين.
بعض الأكاذيب كانت أعذاراً- أحد أفراد العينة القى اللوم في الفشل بإخراج القمامة على جهله بمكان وضعها. لكن بعض الاكاذيب الاخرى كادعاء الشخص بكونه ابن الوزير- سعت لإظهار صورة مزيفة. وبينما كانت هذه الأكاذيب ذات شأن صغير. فإن دراسة لاحقة أجرتها دي باولو وزملائها شملت عينات مشابهة أكدت ان معظم الناس قاموا في وقت من الاوقات بإلقاء كذبة أو أكثر من النوع “الخطير” – كإخفاء خيانتهم عن الشريك أو تقديم تصريحات كاذبة أثناء التقديم للجامعة.
إن القول بوجوب امتلاك البشر على صعيد العالم مهارة خداع بعضهم البعض لا يجب ان يفاجئنا. وقد خمن الباحثون إن الكذب كسلوك يظهر بعد ظهور اللغة بوقت قصير. إن القدرة على استغلال الاخرين بدون استخدام قوة جسدية والتي يمكن ان تمنح أفضلية في المنافسة التي تجري من اجل الحصول على المصادر او الظفر بالشركاء, شبيهة بتطور استراتيجيات الخداع في المملكة الحيوانية, كالتمويه.
“يُعتبر الكذب من أسهل وسائل اكتساب القوة مقارنة بالوسائل الاخرى” هذا ما كتبته سيسلا بوك Sissla Bok عالمة الاخلاقيات في جامعة هارفرد والتي تُعد واحدة من ألمع المفكرين في هذا الحقل. ” الكذب للحصول على مال أو ثروة شخص أخر هو طريقة اسهل من القتل أو من سرقة بنك.”
وحين تم تصنيف الكذب على إنه ميزة بشرية متأصلة بأعماقنا, قام الباحثون في مجال العلوم الاجتماعية وعلماء الاعصاب بالبحث عن طبيعة وجذور هذا السلوك. كيف ومتى تعلمنا ان نكذب؟ ماهي الاسس النفسية والعصبية وراءه؟ ومتى يجب أن نتوقف عنه؟
يعرفُ الباحثون ان البشر ميالين لتصديق بعض الاكاذيب حتى لو تبين تعارضها مع الادلة الواضحة. هذه الإضاءات تظهر ان ميلنا لخداع الاخرين وحساسيتنا من التعرض له تتبع أحداهما الاخرى في عصر التواصل الاجتماعي. ان قدرتنا كمجتمع على فصل الحقائق عن الاكاذيب تتعرض لتهديد غير مسبوق.
اتذكر انني عندما كنت في الصف الثالث جلب أحد زملاء الصف مجموعة من ملصقات سيارات السباق للتباهي. لقد بهرتني تلك الملصقات وتمنيت حيازتها بشدة حتى انني بقيت في غرفة الصف اثناء حصة الرياضة وقمت بسرقتهم من حقيبته ووضعهم في حقيبتي. وعندما عاد الطلاب للصف أخذ قلبي يخفق بشدة وأصبت بذعر شديد خوفا من اكتشاف فعلتي. لذا فقد فكرت بكذبة استباقية. وقمت بإخبار المعلم بأن اثنين من المراهقين قدموا على دراجة قد دخلوا الصف وفتشوا الحقائب وسرقوا الملصقات. وكما تتوقعون فقد كُشفت كذبتي عند أبسط تفتيش, فأعدت ما سرقته على مضض.
كذبتي البريئة – ثقوا بي لقد شُفيت الآن – كانت تتماشى مع براءتي كطفل في الصف السادس, اذكر أن صديقاً أخبرني بامتلاك عائلته كبسولة طائرة بإمكانها نقلنا الى حيث نريد من العالم. وفي اطار التحضير للسفر على متن تلك المركبة, سألت والديّ ان كانا يستطيعان تحضير بعض الوجبات من أجل رحلتي. وحتى عندما سخر أخي الاكبر من ذلك, رفضت تكذيب أدّعاء صديقي. وتُرك الامر لوالد صديقي الذي اقنعي اخيرا بأني قد خُدعت.
أكاذيبي تلك وأكاذيب صديقي لم تكن غريبة عن أطفال في مثل هذه الأعمار. كتعلم المشي والحديث, يعد الكذب علامة من علامات التطور. وبينما يعتبر الوالدين أكاذيب أطفالهم مشكلة مقلقة- كونهم يعدّونها إشارة الى بداية فقدان البراءة- يرى كانغ لي, عالم النفس في جامعة تورنتو, ان نشأة هذا السلوك عند الاطفال إشارة مطمئنة على ان نموهم المعرفي يسير في المسار الصحيح.
ولدراسة الكذب عند الاطفال نفذ لي و زملائه تجربة بسيطة. فقد طلبوا من الاطفال ان يحزروا تسمية الالعاب المخفية عن انظارهم, بالاعتماد على مفتاح صوتي. كان المفتاح واضحا بالنسبة للألعاب الاولى- صوت نباح لكلب, مواء لقطة-فأجاب الاطفال بسهولة. بعد ذلك تم تشغيل أصوات لا علاقة بها بالألعاب.” فمثلا تم تشغيل بيتهوفن, لكن اللعبة عبارة عن سيارة” كما يشرح لي. ومن ثم قام الباحثون المُختبرون بترك الغرفة بحجة الاجابة عن مكالمة هاتفية- كذبة بيضاء في سبيل العلم- وقد طلبوا من الأطفال عدم اختلاس النظر للالعاب0 وعند عودتهم, سأل المُختبرون الطفل عن الاجابة, متبوعة بالسؤال عما اذا كانوا قد اختلسوا النظر ام لا.
تتحسن قدرة الاطفال على الكذب كلما كبرت أعمارهم. ومن اجل تخمين اللعبة التي كانوا قد نظروا اليها سراً, فان الاطفال البالغين من العمر ثلاثاً واربعاً باحوا بالإجابة الصحيحة, من دون ان يدركوا بأن هذا يكشف مخالفتهم وكذبهم. أما في عمر الست او السبع, يتعلم الاطفال إخفاء كذبهم بتعمدهم إعطاء إجابة خاطئة أو بمحاولة جعل إجاباتهم تبدو مُبررة الأسباب.
اما أطفال الخمس والست سنوات فيكونون بين هؤلاء واولئك. في احد التجارب قام لي باستخدام الديناصور بارني. فقامت فتاة بعمر الخمس سنوات والتي كانت قد انكرت رؤيتها لللعبة التي كانت مخفية تحت ستار بإخبار لي بانها تريد ان تتحسس اللعبة قبل ان تحزر الاجابة. “لذلك فقد مررتْ يدها تحت القماش واغمضت عيناها, ثم قالت, “آه, لقد عرفت, إنه بارني” فسألها لي عن السبب, فقالت, “لأنه يبدو أرجوانيا.”
إن ما يدفع الى هذه الزيادة في تعقيد الكذب هو تطور قابلية الطفل على وضع نفسه/ها محل شخص آخر. ما يعرف بنظرية العقل, وهي القابلية التي نكتسبها لفهم اعتقادات و نوايا و معارف الاخرين. كما وإن الاساس الاخر للكذب هو وظيفة الدماغ التنفيذية: القابليات المطلوبة للتخطيط, والانتباه والسيطرة على الذات. فأدى الاطفال ذوو السنتين الذين كذبوا في تجربة لي افضل في اختبارات نظرية العقل والوظائف التنفيذية مقارنة بأولئك الذين لم يكذبوا. وحتى في سن السادسة عشر, فإن الاطفال الذين كانوا كَذبة متمرسين فاقوا اولئك الكَذَبة سيئيّ الاداء. من جهة اخرى, فإن الاطفال المصابين بطيف التوحد- المعروفون بتأخرهم في تطوير نظرية عقل متمكنة- سيئون جدا في الكذب.
مؤخرا وفي أحد الصباحات, أخذت سيارة اوبر لزيارة دان اريلي, عالم النفس في جامعة ديوك ومن أوائل الخبراء في الكذب على مستوى العالم. كان لداخل السيارة رائحة جوارب كريهة على الرغم من اناقة تصميمها, و قد واجهت السائقة صعوبة في ايجاد الطريق على الرغم من تهذيبها. وعندما وصلنا لمكاننا المنشود أخيراً, سألتني مبتسمة ان كنت سأعطيها تقييما من خمس نجوم فأجبت بالإيجاب. لاحقا, اعطيتها تقييماً من ثلاث نجوم. لقد خففت شعوري بالذنب بإقناع نفسي بأنه من الافضل ان لا اضلل الالاف من راكبي الاوبر.
أصبح آريلي مفتونا بدراسة الكذب قبل حوالي خمسة عشر عاما. أثناء مطالعته لمجلة في احدى الرحلات الجوية الطويلة, وقعت عيناه على اختبار للكفاءة العقلية. فأجاب السؤال الاول ومن ثم أدار الصفحة لرؤية الجواب في الخلف ليتأكد ان كان قد أجاب بشكل صحيح. لقد وجد نفسه يختطف نظرة سريعة لإجابة السؤال التالي. وقد أستمر على نفس المنوال حتى نهاية كامل الاختبار, وكما هو متوقع فقد أحرز نتيجة جيدة. “عندما انتهيت, أدركت بأنني قد خدعت نفسي,” واكمل قوله ” من المفترض, اني أردت ان اعرف مدى ذكائي, لكنني اردت أيضا ان أبرهن لنفسي على ذلك الذكاء.” قادت هذه التجربة آريلي لتطوير اهتمام طويل الامد في دراسة الكذب والاشكال الاخرى من الخداع.
في تجارب نفذها مع زملائه في الجامعات واماكن اخرى, اُعطي المتطوعون اختباراً مؤلفا من عشرين مسألة رياضية بسيطة. وكان يُشترط حل أكثر عدد من المسائل التي باستطاعتهم حلها خلال خمس دقائق وسيُدفع لهم بناءا على عدد المسائل الصحيحة. ثم تم اخبارهم برمي الورق بآلة تقطيع الورق قبل تسجيل عدد المسائل التي أجابوا عنها بشكل صحيح. لكن في الحقيقة لم يتم تقطيع الاوراق. ما تبيّن هو أن الكثير من المتطوعين قد كذبوا. وفي المتوسط , فان المتطوعين سجلوا حلهم لست مصفوفات , لكنها كانت في الحقيقة بحدود الاربع. ونتائج هذه التجربة كانت متقاربة حين اُجريت في أماكن ذات ثقافات مختلفة. يكذب الكثير من البشر, لكن فقط بمقدار قليل.
السؤال الذي وجده اريلي مثيرا للاهتمام هو ليس لماذا يكذب الكثير من البشر, بل لماذا لا يكذبون بقدر أكبر. حتى حين تزداد كثيراً كمية الاموال الممنوحة للإجابات الصحيحة, لا يقوم المتطوعون بزيادة مستوى الخداع. يقول اريلي “في هذه التجربة اعطينا الناس فرصة لسرقة الكثير من المال, لكنهم لم يغشوا الا قليلاً. فهناك اذن شيء يثنينا- او يثني معظمنا- عن عدم الكذب بصورة دائمة.” السبب, حسب قوله, هو اننا نريد رؤية أنفسنا صادقين, لأننا والى حد ما ادخلنا الصدق لذواتنا كقيمة تعلمناها من المجتمع. الامر الذي يُفسر وضعنا الحدود على مدى رغبتنا في الكذب, مالم نكن مصابين باضطرابات اجتماعية. يُقيّد مدى الكذب الذي نرغب بالذهاب اليه بالتقاليد الاجتماعية التي توصلنا اليها بأجماع غير مُعلن, كتقبلنا غير المُعلن للاستيلاء على بعض الاقلام من خزانة تجهيزات مكتب الدائرة.
فريق باترك كوينبرغ وزملاؤه القضاة في المحكمة العليا لمقاطعة لوس انجلس اعتقدوا بأنه كان بطلا امريكياً. وعلى حسب روايته فأنه كان قد مُنح القلب الارجواني في فيتنام لمشاركته في عمليات سرية لوكالة الاستخبارات المركزية. كما وتفاخر القاضي بخلفيته التعليمية المثيرة للإعجاب-شهادة جامعية في الفيزياء وشهادة ماجستير في علم النفس. لكن هذا كله لم يكن الا تزويراً و حين تمت مواجهته بالحقيقة, تحجج بحالة تدعى داء الكذب التخيلي, وهو ميل لتأليف قصص تختلط فيها الحقائق مع الخيال. لكن هذه الحجة لم تدفع عنه فصله من منصبه في العام 2001.
لم يتفق الاطباء النفسيون على طبيعة العلاقة بين الصحة العقلية والكذب, حتى حينما تبين ان الاشخاص الذي يعانون من اضطرابات نفسية يظهرون سلوكيات محددة من الكذب. يميل الافراد ذوو الاضطرابات الاجتماعية –هؤلاء الذين تم تشخيص اصابتهم باضطراب الشخصية الانطوائية- لقول أكاذيب ذات صفة استغلالية هدفها التلاعب, بينما قد يميل النرجسيون لقول الاكاذيب من اجل تدعيم صورهم.
لكن ما هو الأمر الاستثنائي في عقول الافراد الذين يكذبون أكثر من الاخرين؟ في العام 2005 قام عالم النفس يالنغ يانغ وزملائه بمقارنة مسح المخ لإفراد من ثلاث مجموعات: اثنا عشر بالغاً معروفون بالكذب المتكرر, و ستة عشرة بالغاً من الاشخاص الذين تنطبق عليهم خصائص اضطراب الشخصية الانطوائية ولكنهم ليسوا من الذين يحترفون الكذب, وواحد وعشرون شخصاً لا يعانون من أي مشاكل اجتماعية ولا يمارسون الكذب. فوجد الباحثون ان من يكذبون يظهرون زيادة تقدر بجوالي 20بالمئة بالألياف العصبية في مناطق قشرة الفص الجبهي, ما يشير الى ان المعتادين على الكذب يظهرون ارتباطات أكثر في أدمغتهم. ومن المحتمل ان هذا ما يدفعهم للكذب لان لديهم تلك القدرة على اختلاق اكاذيب بسهولة أكثر من الاخرين. او قد تكون نتيجة للكذب المتكرر.
العالمان النفسيان نوبيتو آبي من جامعة كيوتو و جوشوا جرين من جامعة هارفرد قاما بإجراء مسح لأدمغة عينات باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي(FMRI) وقد وجدوا ان الاشخاص الذين غشوا أظهرت أدمغتهم تحفيزاً كبيراً في النواة المتكئة- والتي هي عبارة عن تركيب يقع في قاعدة الدماغ الامامية والتي تلعب دورا رئيسياً في عملية معالجة المكافأة. يقول غرين انه “كلما انثار نظام المكافآت لديك بإمكانية الحصول على أموال-حتى في السياقات النزيهة كلياً- كلما ازداد احتمال ان تغش,”. بمعنى آخر, ان الجشع قد يزيد ميل الشخص للكذب.
تجر الكذبة الواحدة كذبات اخرى و يتبين ذلك من سلاسة كذب محترفي الاحتيال والذي لا يصاحبه اي ندم كما في حالة هوغ . كما وأجرت تالي شاروت ,عالمة الاعصاب في جامعة كوليدج لندن, وزملاؤها تجربة أظهرت مدى اعتياد الدماغ على التوتر او على عدم الارتياح العاطفي الذي يحصل حينما نقوم بالكذب, الامر الذي يسهل اختلاق الكذبة القادمة. خلال المسح الرنين المغناطيسي الوظيفي لأدمغة المشاركين بالتجربة, ركز الفريق على لوزة المخيخ, المنطقة التي تشترك في عملية معالجة المشاعر. وقد وجد الباحثون ان استجابة اللوزة للأكاذيب تتضاءل باستمرار مع كل كذبة, حتى عند زيادة حجم الاكاذيب. وقد قال:” الانخراط في افعال خداع صغيرة قد يؤدي الى الانخراط في أعمال خداع أكبر.”
ان كثيرا من المعرفة التي نستخدمها لتوجيه العالم تأتي مما أخبرنا به الاخرون. بدون الثقة المُفترضة التي نضعها في التواصل البشري, سنعاني العزلة وسننقطع عن اقامة العلاقات الاجتماعية.” نحصل على مردود كثير من الثقة و قليلٍ من الاذى تقريباً عندما نتعرض للخداع,” يقول تيم ليفين, عالم النفس بجامعة الاباما في بيرمنغهام والذي دعى هذه الفكرة بنظرية الحقيقة الافتراضية.
أن اعتيادنا على منح الثقة تجعلنا ساذجين بالفطرة. ” فان قلت بأنك تعمل طياراً, فلن يفكر الناس حينها بأنك ربما لست طيارا. و لا يفكرون بالسبب الذي دفعك لقولك هذا, فهم لا يفكرون بتلك الطريقة,” هذا ما يقوله فرانك اباغنيل الابن, وهو مستشار أمن شملت عمليات احتياله حين كان شابا تزوير شيكات وانتحال شخصية طيار واُقتبس عنه الفلم الشهير “امسك بي ان استطعت”. “لهذا تنجح عمليات النصب لأنه حين يرن الهاتف ويعرّف المتصل عن هويته بأنه من خدمة ضريبة الدخل, سيصدق الناس ذلك بسرعة. فهم لا يدركون ان احدا قد ينتحل هوية المتصل.”
يطلق العالم النفسي في جامعة ماساشوستس روبرت فيلدمان على هذه الحالة “امتياز الكاذب”. فيقول ان “الناس لا يتوقعون الاكاذيب, ولا يبحثون عنها” ” يرغب الناس بسماع الاحاديث التي يستمعون اليها.” فمقاومتنا غير حصينة أمام الاكاذيب التي تجلب لنا الرضا والراحة-سواء كانت مديح زائف او وعد مستحيل بعائدات استثمار عالية. عندما تُقدم لنا الاكاذيب من مالكي الثروة والسلطة والمكانة, فستبدو أيسر للابتلاع, كما اُثبت تقارير الاعلام الساذجة عن ادعاء حادثة سرقة لوتش Lochte’s والتي انكشفت بعد ذلك بفترة قصيرة.
اظهر الباحثون ان لدى البشر ميلاً لتقبل الاكاذيب التي تدعم آرائنا. وبسبب نقطة الضعف هذه تنتشر على الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي تلك الاقاويل التي تدعي عدم ولادة باراك اوباما في الولايات المتحدة, وتنكر التغير المناخي وتتهم الحكومة الامريكية بتدبير هجمات الحادي عشر من سبتمبر الارهابية, كما وتنشر “حقائق بديلة” اخرى كما دعاها مستشار ترمب حين تحدث عن ادعاءات حشد تنصيب الثاني. فضح هذه الاكاذيب لا يزيل قوتها لكون الناس يقيّمون الدليل المُقدم لهم من خلال اطار اعتقاداتهم وانحيازاتهم المسبقة, هذا ما يقوله جورج لاكوف, عالم اللغويات الادراكي في جامعة كاليفورنيا, بيركلي. ” اذا واجهت حقيقة لا تناسب أطارك الفكري, فإما انك لن تكون قادرا على ملاحظتها, او ستقوم بتجاهلها او الاستخفاف بها ,أو ستحار بها او انك ستقوم بمهاجمتها أن كانت تشكل لك تهديدا.”
دراسة حديثة اجراها برايوني سواير- ثومبسون المرشح لنيل الدكتوراه في علم النفس الادراكي في جامعة ويسترن استراليا توثق عدم تأثير البيانات المبنية على الادلة في دحض الاعتقادات الخاطئة. في العام 2005 عرض سواير ثومبسون وزملائه على 2000 امريكي بالغ أحد التصريحين التاليين:” اللقاحات تسبب التوحد” أو ” صرح دونالد ترمب ان اللقاحات تسبب التوحد.”(قال ترمب بوجود هذا الرابط ,بالرغم من افتقاد الدليل العلمي على هذا الادعاء.)
من غير المستغرب ان المشاركين من أتباع ترمب اظهروا تصديقاً قوياً قاطعاً بالمعلومة المغلوطة حين ارتبطت باسم ترمب. لاحقاً اُعطي المشاركون تفسيرًا قصيراً من دراسة كبيرة للسبب الذي يجعل الربط بين اللقاح والتوحد خاطئا, وطلُب منهم اعادة تقييم ثقتهم بصحة المعلومة. فوافق المشاركون -وبمختلف انتماءاتهم السياسية- على ان التصريحات التي تدّعي وجود العلاقة كانت خاطئة, لكن ظهر عند اختبارهم مجدداً بعد أسبوع ان اعتقادهم بصحة المعلومة المغلوطة قد عاد الى نفس المستوى السابق تقريبا.
لقد اظهرت دراسات اخرى ان الدليل الذي يقوض الاكاذيب قد يؤدي في الواقع الى تقوية الاعتقاد بها. ” يميل الناس الى الاعتقاد ان المعلومات المتداولة هي معلومات صحيحة. لذا ففي كل مرة تقوم بنقضها, فانك تخاطر بجعلها مُعرّضة لتداول أكثر, ما يجعل هذا النقض في الواقع قليل التأثير على المدى الطويل وهنا تكمن المفارقة,” كما يقول سواير- ثومبسون.
لقد اختبرت هذه الظاهرة بنفسي بعد وقت قصير من حديثي مع سواير ثومبسون.عندما قام صديق لي بإرسال رابط الكتروني لمقالة تصنف أكثر عشر احزاب سياسية فاسدة في العالم, فقمت بمشاركتها بسرعة من خلال تطبيق WhatsAPP مع مجموعة تضم مائة من أصدقاء الثانوية في الهند. وكان السبب وراء اندفاعي هو ان المرتبة الرابعة في هذا التصنيف كانت من نصيب حزب المؤتمر الهندي, والذي تورط في العقود الاخيرة بعدد من فضائح الفساد. وقتها كنت سعيداً للغاية لأني لم اكن من مريدي هذا الحزب.
لكن بعد فترة قصيرة من مشاركتي للمقال, اكتشفت ان ذلك التصنيف الذي ضم احزابًا من روسيا وباكستان والصين واوغندا لم يستند على اي مقاييس. وتم تنفيذه من قبل موقع يدعى BBC Newspoint, ما بدا لي مصدرا موثوقاً. لكنني اكتشفت انه لا يرتبط بهيئة الاذاعة البريطانية. فنشرت اعتذاراً في المجموعة, قائلا ان المقالة كانت على الارجح عبارة عن اخبار كاذبة.
لكن ذلك لم يمنع الاخرين من اعادة نشر المقال مرات عديدة بعد نشري اياها. لقد ادركت ان التصويب الذي نشرته لم يكن ذا تأثير. العديد من اصدقائي ولأنهم كانوا يشاطروني الكراهية ذاتها لحزب المؤتمر كانوا مقتنعين بأن ذلك التصنيف كان صحيحاً, وفي كل مرة كانوا يشاركونه, كانوا يرغبون, عن غفلة او ربما عن علم, بتحقيق الشرعية. مواجهة الامر بالحقيقة كان بلا جدوى.
فما الذي قد يكون اذن الطريق الامثل لوقف تقدم الاكاذيب واثق الخطى نحو مجتمعاتنا؟ الاجابة ليست واضحة. لقد فتحت التكنولوجيا جبهة جديدة أمام الخداع ما يجعل تطور القرن الحادي والعشرين يشترك في الصراع القديم بين ذواتنا الكاذبة و ذواتنا النزيهة.
المصدر: هنا

عن

شاهد أيضاً

الحقيقة المخيفة حول ميمات الحرب العالمية الثالثة

بقلم: مولي روبرت ترجمة: سرى كاظم تدقيق: ريام عيسى تصميم الصورة: اسماء عبد محمد غيوم …

الهرطقات الست الكبرى في القرون الوسطى ضد الكنيسة

بقلم: جوشوا مارك ترجمة: سيف داوود تدقيق: ريام عيسى تصميم الصورة: اسماء عبد محمد أسست …