الرئيسية / أجتماع / برتنارد راسل: الحب، الجنس، الحياة الطيبة وكيف تحد الخرافة الأخلاقية من سعادتنا

برتنارد راسل: الحب، الجنس، الحياة الطيبة وكيف تحد الخرافة الأخلاقية من سعادتنا

الحياة الطيبة هي تلك الحياة المفعمة بالحب والمقودة بالمعرفة. ليس للحب دون المعرفة ولا للمعرفة دون الحب أن ينتجا حياةً طيبة.

يعد برتراند راسل ( 18 أيار 1872 – 2 فبراير 1970) أحد أبرز مفكري الإنسانية وأكثرهم تنوراً. أفكاره خالدةٌ كما لو كانت نبوية. قبل قرنٍ من زمننا الحالي المتّسم بإنتاجيةٍ مضطربةٍ ومهتاجة، تنبّه راسل لخطورة آثاره ودور الملل والسكون في القضاء على سعادتنا. في كتابه “الوصايا العشر للتعليم”، يلخص راسل بكلماتٍ موجزةٍ أهم مبادئ التعليم على الإطلاق. وجهة نظره المتعلقة بالطبيعة الإنسانية تلقي الضوء على الدافع التدميري حتى الرحمة والرأفة. لم تلمع عبقرية راسل كما فعلت في كتابه ” ما أؤمن به what I believe ” كتعريفٍ لعقيدته، وهو يتناول أيضا موضوعي الخلود وسبب وجود الأديان:

بعد نشر تعريفه للحياة الطيبة ” الحياة الطيبة هي تلك المفعمة بالحب والمقودة بالمعرفة،” يكمل راسل، ” ليس للحب دون المعرفة ولا للمعرفة دون حب أن يصنعا حياةُ طيبة.” فهو يحيل إلى أكثر عنصرين مؤثرين، العنصرين الذين حاولت البشرية صياغة تعريف لهما عبر القرون، وحاولت جميع الفلسفات تحديدهما. يكتب راسل:

” على الرغم من أن الحب والمعرفة مهمان معا، ولكن الحب هو الأساس، لأنه يقود الأذكياء لطلب المعرفة بغية إفادة من يحبون. ولكن إن لم يكن الناس أذكياء، فإنهم سيميلون للرضا بكل ما  يقال لهم، وربما، يرتكبون الشر على الرغم من أن الخير أكثر أصالةً في نفوسهم. “

مرة أخرى، تصدق نبوءة راسل – بعد عدة عقود، كتب المعلم البوذي العظيم “تيش نهات هانهس” ..”أن نحب دون معرفة (كيف نحب) سيؤذي حتماً الشخص الذي نحبه ” ولكن راسل كان متيقظا وبين أنه لنعرف كيف نحب، علينا أن نعرف أن للحب أبعاداً متعددة:

“ الحب هو كلمة تغطي عدة مشاعر؛ وقد استخدمتها لهدفٍ حيث أتمنى أن تغطي هذه الكلمة كل تلك المشاعر. الحب كعاطفة -هو ما أتحدث عنه، حيث أن الحب “كمبدأ” لا يبدو لي شيئا حقيقيا- يتأرجح بين قطبين، من جهة بهجة صافية في التأمل، ومن جهة أخرى خير خالص. فيما يتعلق الأمر بالجمادات، فإننا نشعر بالبهجة، فلا يمكننا ان نشعر بالخير والإحسان تجاه منظر طبيعي او سوناتا. هذا النوع من المتعة –يفترض- أنه مصدر الفن. وهو أقوى بالتأكيد عند الأطفال لا عند البالغين الذين ينظرون للأشياء نظرة نفعية. إن هذا يلعب دوراً هاماً في مشاعرنا تجاه البشر، فبعضهم فاتن والبعض الآخر لا، هذا فيما

يتعلق بالتأمل الجمالي لهم.

ويقول راسل أن البهجة والخير هما العنصرين الأساسيين لدى المحب:

“الحب في أقصى حالاته هو مزيجٌ لا ينقسم من عنصرين، البهجة والإحسان. فسعادة الأب بنجاح ابنه الرائع يحتوي هذين العنصرين. وكذلك هي ممارسة الحب (الجنس) في أقصى حالاتها. ولكن في الجنس، سيوجد الخير او الإحسان إن توفر عنصر الأمان (الثقة)، وإلا فستدمِّر الغيرة كل شيء، ولكن ربما سيزيد هذا من بهجة التأمل. ربما تكون البهجة دون الإحسان وحشية؛ والإحسان كذلك بلا بهجة سيميل للبرود وسيصبح أقل سمواً. إن الشخص الذي يتمنى أن يكون محبوباً هو شخص يتمنى أن يكون موضوعا لكلا العنصرين.

عدم التوازن بين هذين العنصرين، ربما، هو ما أثار خوف سوزان سونتاج وهي تزعم على كتابة “الحب، الجنس والعالم بينهما” بعد نصف قرنِ لاحق. بالنسبة لراسل، في هذه الثنائية لا ينفصل الحب عن العنصر الثاني وهو المعرفة. ولكنه حذر جدا فيما يخص المعرفة حيث أنها معرفةٌ علمية –معرفة العالم بحقيقته الكاملة وواقعيته- لا معرفةٌ أخلاقية. وبرأيه؛ إن الأخلاق هي مسألة مختلفة برمتها- وإلى الآن، وبشكل غريب، فإنها أي الأخلاق تربط بالقوة السيكولوجية والتي نربطها بالحب: الرغبة. وهذا ما يشعرنا بأنه من الواجب أن يلتقيا في نقطةٍ ما، يكتب راسل :

كل القواعد الأخلاقية يجب أن تٌختبر فيما إذا كانت تتوافق مع النهايات التي نرغبها. إني أقول أننا نرغب، ولكننا لا نرغب بالنهايات التي ينبغي أن نحصل عليها بالضرورة. ما “ينبغي” أن نرغبه هو ما يتمنى لنا الآخرون وغالباً ما يأتي هذا من قبل سلطات كالوالدين، الشرطة، الأساتذة أو القضاة. إن قلت لي “ينبغي عليك فعل كذا وكذا” فإن قوة عبارتك تتمثل في رغبتي في موافقتك- معا، من المحتمل، إضافة لكل المكافآت والعقوبات التي ترتبط مع موافقتي لك أو عدم موافقتي. ولمّا كانت كل السلوكيات نابعة عن الرغبة، صار من الواضح أن المفاهيم الأخلاقية لا أهمية لها سوى تأثيرها على رغباتنا. وهي أي المفاهيم الأخلاقية؛ تقوم بذلك عن طريق زيادة الرغبة على الموافقة و الخوف من عدم الموافقة. إنها قوى اجتماعية قوية للغاية، وعلينا أن نحاول كسبها لصالحنا إن كنا نبتغي تحقيق هدف اجتماعي.
يصر راسل على أن الرغبة هي محركٌ قويٌّ لا يمكن أن يُردع لا بعقوبة ولا بغيرها، كما لا يمكن استغلاله أو تسخيره:
لا توجد طريقةٌ معقولةٌ لجعل الناس يفعلون أشياء لا يرغبونها. ما يمكن فعله هو أن نغير رغباتهم بنظامٍ محددٍ من العقوبات والمكافآت ومن بينها جعل أسلوب الموافقة أو عدم الموافقة الاجتماعية لا يقلُّ قوةً عن غيره. والآن السؤال الموجه للسلطات التي تشرع الأخلاق هو: كيف بإمكاننا جعل نظام الجزاء والعقاب يحقق أقصى حدٍّ ممكن من الرغبات من قبل السلطة التشريعية؟ .. بعيدا عن رغبات الإنسان هناك ما يسمى بالقواعد الأخلاقية.

إن ما يفرق الأخلاق عن العلم ليس أنه نوع خاص من المعرفة أو ما شابه، ولكنها الرغبة فحسب.

وحسب رأي راسل، إن مفاهيمنا الأخلاقية تبدو بعيدةً جداً عن واقع التجربة الإنسانية:

الأخلاقيات الحالية عبارة عن مزيجٍ غريبٍ من النفعية والخرافات، وتشكل الخرافات الجزء الأقوى لمّا كانت هي منبع وأصل القواعد الأخلاقية. وكما جرت العادة، كانت بعض السلوكيات لا ترضي الآلهة، وقد حرمت تلك السلوكيات بالقانون لكيلا يحل الغضب الإلهي على المجتمع لا على الأفراد المذنبين حصراً. ومن هنا نشأ مفهوم الخطيئة، أي ما يغضب الإله. ولا سبب واضح لتفسير لم بعض السلوكيات تحديداً لا ترضي الإله.

وهذا بالطبع لا يذكرنا بمارك توين وكيف استخدمنا الدين لتبرير الظلم، ولكنه يذكرنا أيضا بالخرافة التي ارتبطت بالمثلية الجنسية تاريخيا. وحتى في وقت مبكر كعشرينات القرن الماضي فإن ناقدأً للدين كراسل أدرك عبثية مثل هذا التفكير وأشار لضرورة التفكير النقدي الذي يمكّن المرء من تقييم الأخطار التي يسميها النظام الخرافي ” باللاأخلاقي” :

لقد بات واضحا أن إنساناً متعلماً لا يمكن أن يسلّم ذاته لنصوصٍ من الكتاب المقدس أو من الكنيسة. لن ينتهي به المطاف وهو يقول ” هذه الأفعال خطيئةٌ وإثمٌ .. فقط” سيرى إن كان الفعل يسبب حقاً أي ضرر، او ما إذا كان المعتقد نفسه يحقق ضرراً. وسيجد أن –خصوصاً فيما يتعلق بالجنس- أن الأخلاقيات الحالية على ارتباطٍ وثيقٍ بالخرافات. وسيجد أن الخرافات

كالتي عند الآزتك مثلاً تنطوي على قسوةٍ لا داعي لها .. إن المدافعين عن الأخلاق التقليدية نادرا ما تكون قلوبهم طيبة… ويمكن أن يظن المرء لوهلةٍ أنهم يقدرون الأخلاق لأنها تعطيهم مخرجاً شرعياً لتفريغ رغبتهم في إلحاق الألم.
كم هو مثيرٌ  أن تحذيرات راسل سبقت بعقودٍ ظهور المدافعين القساة عما يسمى “الأخلاقيات الحوسبية الرائدة” كـ آلان تورينج؛ أحد العقول العظيمة الهامة للبشرية؛ وقبل عدة عقود من انتصار الحب وظهور التشريعات المدافعة عن الزواج (المثلي) . بعد عدة سنوات، وضّح أوليفر ساكس في سيرته أن “الجنس أحد الموضوعات الخطرة –كالدين والسياسة- حيث يكون الناس غير لبقين وغير منطقيين وتملأهم المشاعر غير العقلانية” وفي الحقيقة؛ لقد عالج راسل هذه المسألة مباشرة:

“يجب التنويه على أنه في حضور الأطفال تعتبر المسائل الجنسية أموراً خاصةً للغاية والتي لا تهم الجيران مثلاً. بعض الأنماط الجنسية التي لا تؤدي لإنجاب الأطفال يعاقب عليها القانون المجرم؛ وهذه خرافةٌ أصيلةٌ لأن المسألة لا تؤثر على أي أحدٍ سوى الطرفيين المعنيين فيها.
وأبعد من ذلك، يتابع في سياق التعليم، أن “نظرية الخلق” وهي أكثر الخرافات انتشاراً، ما زالت تدرس في المدارس:

في كل مراحل التعليم، تأثير الخرافة كارثيّ. نسبةٌ معينةٌ من الأطفال لديهم القدرة على التفكير؛ وبعض أهداف التعليم الحالي هي تخليصهم من هذه العادة. لذلك تقابل أسئلتهم بالقمع أو بالعقاب.

قبل نصف قرن من “كتاب المدرسة الأحمر الصغير” وقبل أن يطرح إيتالو كالفينو ما توصل إليه بخصوص الحقوق الإنجابية، أشار راسل لكراهية النساء “الأخلاقية” التي تتبناها الكنيسة:

في سن البلوغ، يجب تدريس الأخلاقيات الجنسية غير الخرافية. على الشبان والشابات أن يُعلموا أنه لا شيء يبرر ممارسة الجنس ما لم يكن هنالك ميلٌ متبادل. وهذا عكس ما تقدمه الكنيسة، حيث أنها تصر على أنه لو كان الرجل يريد طفلاً آخراً فعلى المرأة التلبية حتى لو كانت لا ترغب بممارسة الجنس. يجب تعليم الأولاد والبنات احترام حرية الآخر؛ عليهم أن يعرفوا أنه لا شيء يعطي الإنسان الحق بالشعور بالفوقية على إنسانٍ آخر و أن الغيرة والتملك يقتلان الحب. عليهم أن يُعلموا أن مسألة إحضار إنسانٍ آخر لهذا العالم مسألةٌ جديةٌ للغاية، وعليها أن تتم فقط في حال تم التأكد من أن الطفل سيحظى بالصحة، المحيط الجيد والحب. كما يجب أن يتعلم الجيل الجديد أساليب تنظيم النسل للتأكد إنجاب الطفل عندما يكون مرغوباً حقاً.

 

وبالعودة للأخلاق وعنصريّ الحياة الطيبة، يسبق راسل مارتن لوثر كينغ بعدة عقود،حيث قال الأخير، “الظلم في أي مكان هو تهديدٌ للعدالة في أي مكان،” فهو يقول:
“على الأخلاق ألا تجعل السعادة الغريزية مستحيلة ”
الحياة الطيبة، كما قلت، هي الحياة المفعمة بالحب والمقودة بالمعرفة.. لكن، مع كل تلك الفروقات بين حياةٍ طيبةٍ وأخرى تعيسة، لا زال العالم وحدةً واحدةً، والإنسان الذي يدّعي العيش باستقلاليةٍ تامةٍ هو عالةٌ، واعٍ كان أم غير واعٍ.

كي يعيش الإنسان حياةً طيبةً بأقصى ما يمكنه، عليه أن يحظى بتعليم جيد، أصدقاء، حب، أطفال (إن كان يرغب)، دخلٍ ماديٍّ يكفيه السؤال والقلق، صحةٍ جيدة وعمل يمتعه. كل هذه الأشياء، بدرجاتٍ متفاوتة، تعتمد على المجتمع، تساعدها أو تعيقها الأحداث السياسية. الحياة الطيبة يجب أن تعاش في مجتمعٍ طيب وإلا لن تكون ممكنةً بالكامل.

المصدر: هنا

عن

شاهد أيضاً

العالم يشهد تراجعاً سكانياً بعد عام 2064 هل حدوث مثل هذا الأمر سيئاً؟

الكاتب: ديريك بيريس التاريخ: 21 تموز/بوليو 2020 ترجمة: الطيب جابر عطا الله تدقيق: ريام عيسى …

الإشـــــاعة وكيفيــــة انتشارهــــا 

ترجمة: ياسين إدوحموش تدقيق: ريام عيسى تصميم الصورة: امير محمد الإشاعة ظاهرة اجتماعية تحتاج إلى …