الرئيسية / أدب / من ستايلز الى سوريا, عيد ميلاد سعيد بوارو اللاجئ

من ستايلز الى سوريا, عيد ميلاد سعيد بوارو اللاجئ

منذ مائة سنة مرت من اليوم- 17 يوليو 1916- هرقل بوارو ” Hercule Poirot ” أكثر شخصية محبوبة لآجاثا كريستي, ظهر لأول مرة على المسرح. في رواية أجاثا الأولى قضية ستايلز الغامضة ” The Mysterious Affair at Styles ” تعرّف القراء على الرجل الصغير الانيق و الجذاب في قرية ستايلز ساِنت ماري الخيالية في إسكس. عندما دخل بوارو إلى مكتب البريد المحلي, أصطدام بأحد معارفه القدامى, الكابتن آرثر هاستينغز, الرجل الذي قُدر أن يكون ظلّه المُخلص في نصف القرن إللاحق و الذي سيساعده في حل رموز جرائم القتل المُحيرة لليوم. بطريقته الإيتونية القديمة و الممتعة و ملائمة دماغه البليد, كان هاستينغز الغطاء المثالي للأجنبي الذي يتمتع بِذكاء رائع و أحذية جلدية ناصعة.
ولكن بوارو كان بعيدًا كل البُعد عن ألانيق بشكل رمزي ديفيد سيجت ” David Suchet” الذي نعرفه جيداً, المحقق الخاص و الثري الذي أقام في شقق لندن السكنية و تودد إلى الشرطة البريطانية و النبلاء من الندية الانكليزية.
بوارو كان شرطي بلجيكي عجوز و يعرج بشكل سيء, تشارك في كوخ مع ستة بلجيكيين أخرين نُفيوا من الحرب العالمية الأولى. غروره و أناقته فريدان ( ذرة غبار قد تسبب له المً أكثر من جُرح رصاصة) و لكنه يدرك بألم انه لاجئ.
مناسبة الذكرى المئوية لأبتكار بوارو في خضم واحدة من أسوأ أزمات اللاجئين في التاريخ مؤثرة خصوصاً بسبب العلاقة الشخصية العميقة لكريستي مع سوريا والعراق. كزوجة السير ماكس مالوان، عالم الآثار البارز، أمضت أكثر من عشر سنوات في مختلف التنقيبات في هذين البلدين قبل و بعد الحرب العالمية الثانية. مالوان وكريستي أحبا سنوات عمرهم في الهلال الخصيب، وسيصيبهم الحزن والفزع من حجم المعاناة الإنسانية التي تتكشف هناك اليوم. كتبت كريستي في سيرتها الذاتية “كم احببت ذاك الجزء من العالم”,” لا زلت أحبه و سأحبه دائماً” بالنسبة لزوج كريستي, قيام الدولة الاسلامية (داعش) بهدم متحف الموصل و تخريب العاصمة العسكرية الأشورية العريقة في ألنمرود أمرٌ لا يُطاق. ألنمرود هو من صنع مالوان, ألتنقيب في معابد و قصور ألنمرود و المجموعة المذهلة من المصنوعات اليدوية العاجية و التي عمرها 3000 عام (نظفتها كريستي بمحبة مستخدمتاً كريم وجهها) كانت ذروة حياته المهنية.
كانت كريستي على التل الكبير في ألنمرود عندما بدأت بكتابة سيرتها الذاتية. توصيفها الهادئ للجمال الناعم في تدمر و إبهة الرقة البرتقالية الوردية ( في الواقع كونها عاصمة داعش حالياً ) تعرض تباين مؤلم لوضع المجازر الحالية. قرأتها عن السموّ الصوفي الذي عاشته في زيارتها لضريح الملك طاووس ملاك الأيزيديين النبلاء بشكل إستثنائي مؤلمة و مؤثرة لأن الأيزيديين أبُيدوا من قبل داعش لأعتبارهم من عبدة الشيطان.
لكن مذكراتها تثير ايضاً النظام الأمبريالي الحالي. عندما أستقلت كريستي قطار الشرق السريع في كاليه *” Calais” معها فساتين الكتان و قبعة الشمس و لحم البقر المعلب و قليل من ألعربية كانت تشبه كثيراً ( زوجة منشئ الأمبراطورية) تتجه ل( سيدة الارض). أنه عالم سايكس بيكو, الذي صمم داعش على تحطيمه كما حطم الألاف من الألواح المسمارية المنقوشة بأول خط يد بشري. أسلوب مذكرات كريستي و نمطها عبارة عن مزيج من الأستعمار و الأمومة. وصفت العرب بأعتزاز بأنهم بسطاء وطفوليين، أو ماكرين وفاسدين. الرجال الأكراد بوجوههم الحمراء الشرسة والعيون الزرقاء يذكروها، بطريقة مضحكة بما فيه الكفاية، باللورد كيتشنر “Lord Kitchener”. و لكن لم تكن كريستي محمرة الوجه كعقيد ساذج يزدري من العادات و التقاليد. في رواية “جريمة قتل في بلاد ما بين النهرين”، بوارو يفتح حل العقدة في الرواية بالأبتهال المقدس: ( “بسم الله الرحمن الرحيم الرحيم”) من خلال ترتيل محققها البلجيكي الكاثوليكي “ببطء و بشكل مهيب و رسمي ” من القرآن الكريم، كريستي كانت تستحضر لمسة من النكهة المحلية. لكن للمشهد كرامة وحلاوة معينة، يتحدث عن أحترامها لشعائر و طقوس المنطقة. رواية أخرى، “لقاء في بغداد”، مهمة بشكل أساسي لصداها المعاصر المخيف. الأوغاد، عصابة أرهابية أنكليزية شنو ما سموه “حرب كاملة_ تدمير كامل” من أجل ولادة عالم جديد، هم و داعش فُصّلوا من نفس قطعة القماش السوداء الفاسقة. كريستي التي لا تمتلك صبراً على نفاق الفردوس, قد خلصت الى أن منبع شهوة الدماء و القتل لداعش ليس إنشاء الخلافة في جميع أنحاء العالم و لكن شيء ما أكثر سخفاً و ابتذالاً. كما يقول بوارو بهدوء في “بلاد ما بين النهرين”، “القتل عادة”.
بعودة بوارو الى أنكلترا, أصبحت عادة ايضاً. خلاياه الرمادية الصغيرة و سياق كلامه الخاطىء ( لقد وخزت اصبع قدمي, I stebbed my toe)* قد اثُبت بأنه أخاذ جداً بحيث أن كريستي أشتكت في عام 1938,” لماذا, لماذا, لماذا قمت بأبتكار هذا المخلوق المكروه المتحذلق و الممل؟” فعلاً, لماذا أبتكرته؟ الجواب يكمن في مزيج من النزوة و العناد و الظروف.
على الرغم من أن رواية (ستايلز) نشرت في عام 1920 فقط ( بعد رفضها عدة مرات), كريستي كتبتها خلال ألحرب بينما كانت تعمل كممرضة متطوعة في توركاي ” Torquay”, تعتني بالجنود الجرحى. بينما كانت تتعلم صنع ألتحاميل و توزع المساحيق ألعلاجية, غازلتها فكرة كتابة الرواية البوليسية ( كانت تعمل في المستوصف عندما أكتسبت خبرتها في أتقان السموم المختلفة). بالبحث فيما حولها لأختيار الشخصية البوليسية المناسبة لروايتها, لاحظت (مستوطنة اللاجئين البلجيكيين) في الرعية المحلية, و راقبت تغير الموقف تجاههم من ” الرّحمة و التعاطف ” إلى التذمر حول عدم كونهم” شاكرين بالقدر الكافي”. كتبت كريستي بأن” المساكين كانوا حائرين و في بلد غريب لم يقدروا بما فيه الكفاية”. لم تكن كريستي ناشطة في حقوق الانسان. و لكن كانت مثل ابتكارها الاخر جين ماربل “Jane Marple” تمتلك بوصلة أخلاقية صارمة. قررت أن يكون محققها شرطي لاجئ بأسم كبير. القضية الأولى التي حلها بوارو كانت جريمة قتل بواسطة الإستركنين* و التي كانت ضحيتها سيدة كبيرة من ستايلز, كانت ولية نعمته التي تبرعت بكوخها الأضافي ليسكنه هو و ستة بلجييكين أخرين. من خلال كشف قاتل راعيته, قام اللاجئيين برد الجميل رمزياً. أذا كانت كريستي تكتب أليوم, من المُرجح جداً أن يكون مُحققها سوري.
الهوامش:
*كاليه اكبر مدينة في اقليم دي كاليه الواقع شمال فرنسا.
* في الرواية بوارو يقول (I stebbed my toe) و الجملة الصحيحة هي (I stabbed my toe ) لذلك تذمرت كريستي من سياق كلامه الخاطئ.
*الإستركنين مادة سامة وضفتها كريستي في رواتيها لمعرفتها بالسموم من عملها في المستوصف او الصيدلية.
المصدر: هنا

عن

شاهد أيضاً

لا يحدث كل شيء لسبب

بقلم: نيكولاس كليرمونت ترجمة: رحاب الهلالي تدقيق: ريام عيسى تصميم الصورة: امير محمد ١١/حزيران / …

كيف تركز على شيء واحد فقط

نشر في: موقع فوكس تأليف: ريبيكا جينينغس بتاريخ: 4 سبتمبر 2019 ترجمة: مازن سفان تدقيق …